تسجيل الدخول
قائمة الفنانين
Encyclopedia of Modern Art and Arab World
موســــوعة الفـن الحديـــث والعالــم العربـــي
قائمة الفنانين

الاستمداد من المدوّنات التاريخية: كباريه الحروب الصليبية لوائل شوقي وسقوط التاريخ الغائي

 

​بقلم كارولين كريستوف-باكارجييف​​​​

هل لدينا كأفراد إرادة وتقريرٌ ذاتيٌّ؟ هل نحن وراء أفعالنا وهل يمكننا تحديد خياراتنا، أو أن الأفعال البشرية تحددها أسباب خارجية أو شروط معينة، أو التدخل الإلهي، أو القدر؟

سوف أناقش هذه المسألة من خلال النظر إلى ثلاثية أفلام الفيديو "كباريه الحروب الصليبية" التي أنتجها وائل شوقي، والصادرة خلال سنوات ٢٠١٠ و ٢٠١٢ و ٢٠١٥. باستخدام الدمى المتحركة كممثلين، وسينوغرافيا متقنة، وخطاب عربي فصيح، بالإضافة إلى الموسيقى الإلكترونية والأغاني التقليدية، تصوّر هذه الأفلام محنة وآلاماً كبيرة وأفعالاً عنيفة، بما في ذلك الطعن والذبح وأكل لحوم البشر ومشاهد لكلاب يلتهمون جثة. هنالك تناقض صارخ بين العنف من جهة، والواقعية الساحرة وجمال السنوغرافيا، وروعة الدمى وملابسها، والتصوير المثير والموسيقى الفاتنة من جهة أخرى. في حين تعالج وقائع من القرون الوسطى (الفترة ما بين الحملة الصليبية الأولى في القرن الحادي عشر وسنة ١٢٠٤، عندما تم اجتياح ونهب القسطنطينة، المدينة المسيحية أساسا، على أيدي الصليبيين خلال حملتهم الرابعة)، تدفعنا هذه الأفلام للتفكير بزماننا وارتفاع أعداد الضحايا (ما يقارب ال ٠٠٠‚٢٠٠. في سوريا منذ أول انتفاضة تمرد في العام ٢٠١١ حتى الحرب الأهلية اليوم) وبالخسارات البشرية في حروب الخليج بين الولايات المتحدة والعراق في التسعينات وسنوات الألفين، حرب الخليج الأولى، والحروب الأهلية اللبنانية في عقدي السبعينات والثمانينات، والحروب العربية—الإسرائيلية منذ ١٩٤٨، وتقسيم الأراضي العربية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية في العشرينات على أيدي الاستعمار، والإمبراطورية العثمانية وحروبها الداخلية، بالإضافة إلى أحداث أقدم وأقدم.

أكرر: هل لدينا كأفراد تقريرٌ ذاتيٌّ، أو أن الأفعال البشرية تحددها أسباب خارجية أو شروط معينة أو القدر؟

يبدو أن أعمال شوقي تفترض ضمنا أن القرارات الكبرى التي قد نحققها ليست سوى قابليتنا للخضوع إلى سلطة مجهولة أساسا وموجودة في داخلنا، من خلال الالتزام بالمهمة التي بين يدينا، مهما كانت تلك المهمة، ومن خلال الدقة، أياً كان الأمر الذي تركز عليه. تبعاً لعمله في السابق كرسام تخطيطات، لا يستخدم شوقي الظلال، بل يكرس عمله للخطوط، في حديثه حول رسومه، قال لي: "إنه ليس في الحقيقة شيء أعرفه بشكل مسبق. قد يتحول إلى حيوان يرتبط فعلاً بمدينة، على سبيل المثال. ليس لدي أية فكرة في البدء عن ما هو. ما أريده من العمل هو أن يكون له في النهاية دقة كافية في تفاصيله لضمان أن لا تستطيعي نقد أجزائه بتاتا، لأنه يبدو كما لو كان موجوداً في الحقيقة، في مكان ما. المنظر والشكل موجودان، حيوان له أربعة أرجل. هذه هي تحديداً الكيفية التي صنعت فيها كافة الدمى من خلال الدقة. الدمى مصنوعة عن طريق نفخ وتشكيل الزجاج، لكن المسألة ليست مسألة نفخ، إنها حول كيف يمكن لشيء ما أن يصبح دقيقاً لدرجة تجعلك تعتقدين أنه شيءٌ موجودٌ في الواقع، له غرضه ووظيفه." ١

يتبنى شوقي دور المعلم والمربي سواء في عمله أو في حياته (في ٢٠١٠ حوّل مشغله إلى "ماس الإسكندرية"، وهي مدرسة بديلة للفن المعاصر). كان قد أعجب بأسلوب جوزيف بويز الثقافي، الشاماني والمضاد للاستهلاك، ولكونه ابتكر مفهوم النحت الاجتماعي منذ ١٩٧١ (تشكيل مجتمع كشكل من أشكال النحت من خلال الحوار والنقاش)، بينما كانت لديه رؤية خيميائية للمواد بصفتها تحمل طاقة هي في عملية تحول مستمرة، وبالتالي تحمل الحيوية والحياة.٢ أفلام "كباريه الحروب الصليبية" هي أدوات تربوية، خطافات بصرية تهدف إلى حث المتلقي على دراسة القصص المروية. رسالته هي رفع مستوى الخطاب الشعبي من خلال التربية، والالهام على مواصلة السعادة والعدالة والحياة التأملية. وبدون الاعتقاد بصدقية أي من الكتابات التاريخية، استخدم مع ذلك بدقة الاقتباسات الصحيحة من النصوص التاريخية والمصادر الأصلية: "أنا لا أؤمن بالتاريخ؛ لا زلت أحاول أن أستخدم مصادر التاريخ المكتوب لتحليل هذا التاريخ. أنا انتقد التاريخ من خلال الدقة واستخدام الجُمل والأقوال المقتبسة كما هي."٣

معظم الفيديوهات والأفلام التي ينتجها شوقي هي أعمال تركيبية كذلك، لكي لا يكون الزائرون مجرد مشاهدين في انسلاخ عن الأعمال، بل شخصيات داخل تصميم عام. تضاعف هذا الحس باندماج المشاهد، الأفلام المسجلة رقمياً والتي توفر تفاصيل شديدة الدقة بحيث تولد تجربة ذاتية في اللمس لدى المشاهد من خلال استراتيجيات التماهي الملموس (micro-touch) يُحدث التناقض في بنى المواد وألوانها، قاسية وبراقة بالتعارض مع ناعمة ومخملية، على سبيل المثال، بالإضافة إلى اللقطات المقربة والخلفيات المبهمة، تجربة من نوع اختلاط الحواس (synathetic).

كان تطور الأفلام المبنية على التركيب، من قبل فنانين مثل شانتال أكرمان وجان لوك غودار، في الثمانينات، بمثابة ردة فعل، جزئياً، على صعود وسائل الإعلام والقنوات الفضائية على التلفزيون. تتميّ أفلام الأعمال التركيبية هذه، في أكثر الأحيان، بأسلوب وثائقي وبلهجة ومحتوى استنكاريين، كما لو أن دورها هو استكمال التقارير الإخبارية المواربة في وسائل الاعلام الرسمية، من خلال تقديم معلومات بديلة أو عكسية، بإسم العدالة العالمية ومن أجل تاريخ أكثر صدقا. مع أن أعمال شوقي كانت على هذا النسق، جزئيا، في البداية (مثل "الكهف"، ٢٠٠٥ ، و"بنت جبيل"، ٢٠٠٧) إلا أنها انتقلت إلى الواقعية السحرية مع تركيز شديد على الأعمال التركيبية متعددة الوسائط. شوقي هو من الجيل الجديد الذي يمارس إنتاج الأفلام وتحريك الصور على الإنترنت، مثل اليوتوب، وبالتالي انتقلت اهتماماته من الأفلام الوثائقية إلى الأفلام التاريخية والأفلام البيتية الشخصية. ورغم أن عمل "كباريه الحروب الصليبية" يحافظ على صلة وثيقة بالمصادر التاريخية، من ناحية التواريخ والأحداث والأماكن، فهو بعيد كل البعد عن أفلام الأعمال التركيبية الوثائقية المفاهيمية التي سادت في التسعينات وسنوات الألفين.

يرجع ذلك إلى واقع أنه في عصر الوسائط الرقمية المشبع بالمعلومات، يبدو من الصعب إنتاج المعرفة من خلال ممارسة التوثيق فقط: هنالك الكثير من الوقائع، لذا تصبح "الحقيقة" مبنية على الوقائع التي تم اختيارها وتوثيقها، مما يعني أنه يمكن تأكيد أية حقيقة من خلال عمليات الاختيار والتصويب. من هنا، يعمل شوقي على مستوى خيالي صريح: من خلال التصميم واستخدام الدمى التي تتصف بملامح مختلطة بين البشر والحيوانات كمعنى مجازي. لكنه لا يفقد أبداً سيرورة القصة، نظرا للأمانة التي ينقل فيها الوقائع التاريخية بالاستناد على المصادر المعاصرة للأحداث، بما فيها كتابات أسامة بن منقذ وابن القلانسي.

في مقالة نشرت حديثاً، صنفت جيسيكا مورغان أعمال شوقي ضمن تقليد الأعمال الفنية التي تعيد أداء أحداث ماضية، وتتحدث عن "تقفي آثار خطواتنا الماضية على أمل اكتشاف الطريق إلى الأمام،" كما تضيف أنه "بالرغم من—أو بسبب—سرعة تدفق المعلومات والصور، يتجه انتباهنا نحو الماضي في حلقة متواصلة من التكرار."٤

وتلفت الانتباه إلى أن السبب وراء مساعينا لإعادة الأداء يرتبط بالشعور بالتشكيك في "مصداقية وصحة الوثائق التاريخية. ما انبثق عن ذلك هو نوع كامل من صناعة الفن يهتم بتشريح دور التصوير في وسائل الإعلام واستخدام التصوير في كافة جوانب مجتمعنا، مع إيلاء اهتمام خاص لدوره في الحروب والسياسات." مع قولها هذا، تشير أنه من الصعب تصنيف أعمال شوقي ضمن هذا الخط (الذي يشمل على ما اعتقد فنانين مثل أكرم زعتري ووليد رعد)، رغم أن عمله يستند إلى كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب"  (١٩٨٣) وروايات مؤرخين عرب كتبت في مراحل أقرب إلى الفترة المعنية.

يتيح استخدام الدمى لشوقي أن يتحدث بعبارات أكثر شمولاً، وعلى مستوى الرواية، حول الشخصيات والأنواع، والجشع والوحشية. تستند مورغان إلى نظرية بريخت حول الاغتراب المسرحي (Verfremdung)، لتفسير خيارات شوقي وتقنياته: "تسمح عملية الاغتراب، عن مصدر المواد والموضوع في قلب المشروع، للمشاهد أن ي تناول الموضوع المطروح من منظور غير معهود." ٥

يساعدنا ذلك على رؤية الحروب الصليبية، ليس من وجهة نظر عربية فحسب، لكن أيضاً من منظور التشكيك في التاريخ، أو التشكيك في الروايات التاريخية عموماً. أود أن أضيف، بل يسمح لنا أن ننظر َ في الروايات التاريخية عموما إلى الأحداث كصورة مجازية لتكرار التاريخ، ولكي نرى بالتالي الصراع الذي نشهده اليوم في الشرق الأوسط كتكرار لنفس أشكال التنافس تلك على الموارد وأشكال التسلط الأخرى.


في العديد من أعمال شوقي، يظهر الأطفال بدلاً من الدمى. في الفيديو رباعي القنوات "مربع الأسفلت" (٢٠٠٣)، على سبيل المثال، بنى أطفال من البدو مدرج طائرات في الصحراء خلال يوم واحد. يتكلمون الإنجليزية بلكنة ثقيلة، وهي لغة لا يفهمونها. "تيليماتش السادات" (٢٠٠٧ ، "سلسلة تيليماتش"، ٢٠٠٧-۲۰۰۹) هو عبارة عن إعادة تمثيل اغتيال أنور السادات سنة ١٩٨١ خلال عرض أكتوبر العسكري، مع أداء من قبل أطفال بدو ليس لديهم أية معرفة أو فهم لما يفعلونه. تلاحظ مورغان العلاقة بين استخدام الأطفال واستخدام الدمى في "كباريه الحروب الصليبية" (۲۰١۰-٥۲۰١) حيث أن الأطفال، مثل الدمى، "لا يظهرون إدراكاً واضحاً أو وعياً ذاتياً في أدائهم"٦ وتعتبر أن إعادة توجيه النهج الوثائقي هذه توحي بالطبيعة الهزلية والعبثية لتكرر التاريخ، كما لو أن العالم لن يتعلم أبداً من الأفعال الماضية.

تلحظ مورغان بحق أن أفلام "كباريه الحروب الصليبية" تتميّ باستخدام تقنيات سينمائية أكثر منها مسرحية: "تختلف أفلامه عن مسرح الدمى التقليدي حيث أن المشاهد مؤداة بطريقة تستخدم تصاميم اخراج وأضواء ومؤثرات خاصة متقنة، تبعاً للتقليد السينمائي أكثر من تقليد متقنة، تبعاً عروض الدمى." ٧

مع كوني أوافق هذا الرأي، أود أن أزعم أن العكس صحيح أيضاً: باستخدام الدمى المتحركة والتجهيزات، يدفع شوقي الإنتاج السينمائي إلى أوائل عهده، عندما كان أقرب إلى المسرح، باستخدام الكاميرا الأمامية غالباً. أو على الأقل العمل المحدود بالكاميرا،  بالإضافة إلى خشبة مسرح، والابتعاد عن التنفيذ والنشر عالي التكنولوجيا بالوسائط الرقمية السائدة اليوم. لذا فهو قد وضع تعارضاً ظاهراً في لعبة حيوية: بين استخدام الدمى واستخدام الفيلم. فبينما تقلد الأفلام الحياة الواقعية من خلال محاكاة الحركة عبر الزمن، باستخدام تتابع الأطر التي تتغير بسرعة، تستند عروض الدمى على عالم رمزي من الأشياء الجامدة في طبيعتها والتي لا تحيا إلا على يد محرك الدمى.

أنتج فيلم "ملف عرض الرعب"، ٢٠١٠ ، وهو الأول ضمن ثلاثية "كباريه الحروب الصليبية"، خلال إقامة لدى مؤسسة ميكيلانجلو بيستوليتو في بييلا، بيدمونت، وقد استطاع شوقي أن يقترض من خلال المؤسسة دمى مجموعة دانييلي بوبي الخشبية في تورينو، المصنوعة في القرن الثامن عشر. يستمر الفيلم مدة إثنين وثلاثين دقيقة، ويحكي قصة الحرب الصليبية الأولى، بدءاً من سنة ١٠٩٥ وحتى ١٠٩٩ ، عندما سقطت القدس. في حين تتسم وجوه الدمى بالجمود والصلابة، تتكون الأحداث التي تؤديها من أفعال سريعة الحركة وشديدة العنف. يذكر ذلك بالعنف القصوي في عرض الدمى التقليدي في التراث الغربي "بونش وجودي"، لكن التشابه الأكبر يعود إلى عرض "أوبيرا دي بوبي"، وهو تقليد في رواية القصص الرومانسية من خلال الدمى مثل "أورلاندو فوريوزو" (نوبة جنون أورلاندو)  للكاتب لودوفيكو آريوستو. وضعت هذه العروض في زمن كانت تسود فيه كثرة الاقتباسات من الثقافة العربية، وهي مستلهمة من جلسات الحكواتي—الذي تتألف حكاياته المتداخلة من مئات الحلقات، مثل قصص شهرزاد، الملكة العربية الأسطورية التي روت حكايات "ألف ليلة وليلة".

يروي فيلم "الطريق إلى القاهرة"، ٢٠١٢ ، وهو الأطول والثاني ضمن الثلاثية، قصة الشرق الأوسط بين نهاية الحرب الصليبية الأولى في ١٠٩٩ والحرب الصليبية الثانية بين ١١٤٦ و ١١٤٩ . هنا يستخدم شوقي دمى من الخزف صنعت خصيصاً للفيلم، وتحدث أجفانها وأفواهها، التي تفتح وتغلق عندما تتحرك، أصواتا حادة. الأصوات مهمة في هذا الفيلم الثاني، وهي تجمع بين أصوات الممثلين والأغاني وقرع الطبول والآلات الموسيقية مع كلمات الأغاني التي تؤديها مجموعة من صيادي اللؤلؤ البحرانيين، الذين وظفهم شوقي خصيصاً لهذا العمل الفني، بالإضافة إلى الأطفال ورواة القصص الشيعية الدينية.

في "أسرار كربلاء"، ٢٠١٥ ، الفيلم الثالث من السلسلة، صنعت الدمى من الزجاج—وهي مادة أكثر قابلية للكسر من الخزف. بالاستلهام من إنسانية وضعف المسيح في رواية خوسيه ساراماغو التي تعرضت للمنع من الرقابة "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" (١٩٩١)، بدأ شوقي التفكير باستخدام الزجاج للتعبير عن هشاشة الجسد الذي يحتوي على الروح. ٨ يؤدي ارتجاج خارجي عال جداً إلى كسر الزجاج—عندما تنفتح أعين الدمى وتنغلق، تحدث أصداء أطول من تلك المصنوعة بالخزف. ينتج ذلك شعوراً بالتسامي، فعلى غرار الأجراس، توحي بجو من الأصداء يجعل الفضاء المحيط محسوسا. "نسمع" هذا الفضاء.

للعودة إلى السؤال الأول الذي تطرحه هذه المقالة: إذا كنا نملك إرادة حرة أو نعيش في عالم حتمي. لا يتعلق هذا السؤال، كما قد يبدو للوهلة الأولى بفكرة الفردانية الأوروبية المعاصرة مقابل الفكرة الشرقية الأكثر اجتماعية، حيث أنه سؤال شكسبيري كذلك. في الفصل الخامس، المشهد الخامس، من "ماكبث"، يأتي رسول ليخبر ماكبث أنه رأى الغابة تتحرك نحو القصر، لكنه لا يستطيع أن يقول في البداية سوى: "أتيت لأذكر مشهداً رأيته بعيني، غير أني لا أدري كيف أبدأ."

تتعلق ملاحظته بنقل الأحداث، وكيف يمكن أن يحدث هذا النقل إذا كان حامل القصة غير قادر على تفسير أسباب الحدث، وفقاً لسلسلة من الأفعال التي تمت بإرادة حرة. وبالتالي أنه سؤال حول كتابة التاريخ، إمكانياتها وأغراضها.

كتابة التاريخ العربية هي "حولياتية" في بنيتها، مبنية على الحوليات، أي التواريخ والتسلسل بالسنوات. معظم المؤرخين العرب كانوا ً كتاب يوميات في البلاطات، وبالتالي كانوا يكتبون التاريخ تبعاً لتفضيلات الحكام. لكن ابن خلدون، في مقدمته عام ١٣٧٧، اقترح قراءة اجتماعية للتاريخ وحاول فهم العلاقة بين الطبيعة والزراعة والبشر. ويقول أن الأقاليم المعتدلة، التي ليست في أقصى الشمال ولا أقصى الجنوب، تولد الأشياء المعتدلة: "العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال." ٩

وبالفعل، لا تقع مكة في المناطق البدوية الحارة والجافة، بل في واحة الحجاز، بالقرب من التلال المطلة على البحر الأحمر. خلال القرنين السادس والسابع، هاجر العديد من البدو الرحل إلى تلك في مرحلة من المنطقة. شهد الانتقال من مكة إلى المدينة مجتمعا التحول. غيّت الهجرة المجتمع؛ فالدين وبناء المدن وحّداه وجعلاه مستقرا. يعتبر ابن خلدون أن: "انحطاط المجتمع هو نتيجة لعدم الاستقرار." ١٠

يبدو أن هذا المنظور الاجتماعي في تطور التاريخ تبعاً لبعض الأنماط المتكررة في الهجرة والتنمية في مجتمعات مستقرة مع بناء مدن جديدة، التي يليها الانحطاط الحتمي وانحلال الحضارة، مقبولاً في نظرة شوقي إلى العالم، حيث أنه يستشهد مراراً بهذه الأطروحة. من المثير للاهتمام ملاحظة أن رؤية الهجرة كجزء من تحول المجتمعات يرجع أيضاً إلى الأمثولات التأسيسية في الإسلام، مثل الانتقال من مكة إلى المدينة كجزء من الهجرة الضرورية من أجل تطوير ما يستحق التطوير. يروي شوقي غالباً قصة هجرته الخاصة من الإسكندرية إلى مكة، مع عائلته عندما كان طفلاً، ومشاهدته لتعايش الحداثة والمجتمع البدوي. وقد أشار مرة أن الثقافة البدوية في منطقة الخليج تبدو أكثر قبولاً للتكيف مع طبيعة الرأسمال المالي العالمي المترحل، كما مع بنية المجتمع في عصر الإنترنت.

في فصل "مفهوم التاريخ"، من كتاب "بين الماضي والمستقبل" (١٩٥٤) ، تذكرنا حنة آرندت أنه في اليونان القديمة كان يعتقد أن الطبيعة خالدة، نظراً لطابعها الدوري في استمرارية التكرار والولادة من جديد.١١ كان هذا الخلود الدوري يتعارض في نظر الإغريق مع خضوع البشر للموت، وهم، بسعي منهم للحصول على نوع من الخلود، واصلوا ابتكار التاريخ: من خلال الرواية التاريخية لأفعال وأقوال البشر السابقين، تستطيع إلهة الذاكرة، نيموسيني، أن تخلق نوعاً من الخلود للبشر.

صُنفت كتابة الشعر والتاريخ ضمن نفس الفئة من قبل أرسطوطاليس، لأنهما مكرسان كليهما لجعل الأشياء تدوم من خلال الذاكرة. يحدث ذلك عن طريق تحول حدث ما إلى تاريخ عبر إعادة روايته، وبالتالي من خلال شكل من أشكال تقليد الفعل. وضع ثوسيديديس (٤٦٠-٤٠٠ ق.م) من خلال كتاب "تاريخ الحرب البلوبونيزية" قواعد كتابة التاريخ بالاستناد على ضرورة التوثيق وإيجاد الأدلة. وقد روى قصة الحرب بصفتها حركة كبرى في التاريخ.

حدث تحول ثقافي كبير عندما أدخلت الديانات التوحيدية، بما فيها الإسلام، مفهوم أن ما يبقى هو فقط الروح والنفس البشرية، على نقيض العالم الطبيعي البائد والذي يشمل جسد الإنسان. اليوم، وحتى منذ عصر الرومانسية واكتشاف الوقود الأحفوري الكربوني، يعتبر مفهوم أن الطبيعة بائدة وخاضعة للزوال أكثر حقيقة بشكل عام من كونها خالدة، حسبما كان يعتقده القدامى.

نشأت كتابة التاريخ الحديثة في أواخر القرن الثامن عشر، مع كانط وهيغل، وتبعهما ماركس. ما كان مهماً هو حس الغائية، وهي حركة أو تطور للنوع البشري عن طريق التاريخ. كان يعتقد أنه من خلال كتابة التاريخ، يمكننا أن نرى هذه السيرورة، ليس كسلسلة أحداث منفردة وخارجة عن العادة؛ يمكننا أن ننظر إلى ما هو أبعد من الأفعال المنفردة ذات الأهداف قصيرة الأمد، لكي نرى أهدافاً أعلى لا يعي بها الأفراد، كنوع من روح بشرية كونية شاملة. يصبح التاريخ تعريفاً لهذه السيرورة وفهماً لها. بالنسبة لماركس، كان ذلك حركة وسيرورة نحو مجتمع بدون طبقات، نوع من الفردوس على الأرض.

إضافة إلى ذلك، تمّ في القرن التاسع عشر وضع التعارض بين حقل علوم الطبيعة، بصفتها موضوعية بحتة، وحقل علوم التاريخ، ونحن نعرف اليوم أن ذلك ينطوي على مغالطة، حيث أن كليهما يصلان إلى نتائج تستند إلى الأسئلة المطروحة، كما أن هذه العلوم تعتمد وأن  جميعها على نظرة المراقب. كان على المؤرخ أن يكون موضوعيا يبني دراسته على الوثائق والحقائق، بدون إصدار أحكام أو وضع اللوائم. لكن اختيار الوثائق كان دائما عبارة عن تدخل، لذا فإن وجهة النظر الغائية كانت ضعيفة من أساسها.

قالت آرندت، التي ألفت كتاباتها في عقد الخمسينات، بكثير من الحدس، أن المشكلة في عصر الحداثة التكنولوجي هي أن البشر يلتقون فقط بأنفسهم في عالم كهذا. وحتى في ما يدعى بالعالم الطبيعي، كل شيء قابل لأن يكون من صنع الإنسان، إذن فإن العالم منسلخ عنا لكونه مخنوق من قبلنا. تعتبر آرندت، في مقالها سنة ١٩٥٤ ، أنه في عصر كهذا ليس هناك تاريخ، ولا سيرورة يمكن تعريفها. كتبت ذلك قبل بضعة عقود على اختراع الإنترنت، ويبدو ذلك اليوم أكثر واقعية من أي وقت مضى.

كيف يرتبط ذلك بعصرنا الحالي؟ هل نحن دمى أو نمتلك القرار؟ يروي هاينريش فون كلايست، في مقالته "حول مسرح الدمى المتحركة"  (١٨١٠)، قصة لقائه مع راقص شهير كان يتوقف كثيرة أمام مسرح دمى للترفيه عن العوام في ساحة  أحيانا السوق، ونقاشه معه حول ميزات رقص الدمى بالمقارنة مع الراقصين الأحياء: "لكل دمية نقطة محورية عندما تتحرك، مركز ثقل، وعندما يتم تحريك المركز، تتبعه الأطراف بدون أي تدخل إضافي... حركات المركز هذه بسيطة للغاية. في كل مرة يتم توجيه مركز الثقل في خط مستقيم، ترسم الأطراف منحنيات تكمل وتوسع الحركة البسيطة. في الكثير من الأحيان عندما يتم هز الدمى قليلاً بشكل اعتباطي، تتحول إلى نوع من الحركة الإيقاعية التي تشابه بحد ذاتها الرقص... الدمية لا تنزلق بتاتاً نحو التكلف." ١٢

من هنا فإن مركز الثقل هو الجزء الوحيد في جسم الدمية الذي يوجهه محرك الدمى، وهو يتحرك بشكل لولبي، بينما تؤدي الأطراف حركة رشيقة كنتيجة لذلك، وهذا ما لا يستطيع أحد تحقيقه عبر التحكم المتعمد بها.

ربما كان فون كلايست يفضل الايماءات التلقائية وغير المتعمدة. فهي أكثر فتنة، بينما الفعل الواعي ينتج الزيف. الجاذبية لا تثقل الدمى، بل هي تتصرف بعلاقة عكسية مع الفضاء الذي يعلوها، حيث يدفع محرك الدمى أيديها. هي كائنات أكثر تحرراً، وأكثر ملائكية، لا تخضع إلى قوانين الأرض.

يبدو أن كلايست يريد القول أن الإرادة الحرة تكبح الفتنة في الحركة والحياة العفوية. هل أن غياب الإرادة الحرة يعني بالتالي حياة أكثر حيوية؟ يتعاطى كلايست مع هذا الموضوع كمسألة ما ورائية تتعلق بالحقيقة والجمال، فالفتنة القصوى تكون إما في الوعي اللامتناهي (الإلهي) أو في الغياب التام للوعي (الدمية).

ليست رواية القصة لدى شوقي من الحقائق الماورائية، ولا من الحقائق الغائية المعقلنة، كما ليست من الحقائق الوقائعية. في التاريخ، حتى في أيامنا هذه، يبدو أن الوقائع تحدث بشكل ميكانيكي، من خلال الفعل وردّ الفعل. لذا فإن الدمى أكثر مصداقية، كما يشير. دماه جميلة، وبغياب الوعي، تعرض التاريخ على مستوى ميكانيكي. ليس هنالك تفسير للتاريخ، بل حوارات وصفية قصيرة فقط.

يجعل شوقي الدمى تلعب التاريخ من خلال راوٍ كلي المعرفة، يروي من خارجها، يتحلى بنظرة مراقبة ولكن غير متأثرة بالتاريخ. الأحداث غير مفسرة بشكل صريح، وليست منتظمة في بنية تفسيرية تسلط الضوء على بعض الأحداث دون غيرها. فالأحداث إما متضمنة أو غير متضمة، وعندما يتم إدخالها، تكون على نفس المستوى مثل غيرها، المشهد تلو المشهد.

لا ينتج شوقي تاريخ سير، لفرد بطل أو رواية تستند على دور فرد واحد بحيث يتابع هذا الفرد عبر مختلف الأحداث والمواقع، كما في تاريخ يوليوس قيصر. كما لا يركز على البنى الاقتصادية الكامنة وراء الاستغلال ووسائل الإنتاج وتوزيعها، كما في التاريخ الاجتماعي. طريقته بالسرد مبنية على الحدث، مثل التاريخ التقليدي، لكنها تظهر أيضاً كواليس تلك الأحداث، الدسائس في القصور، والوقائع البسيطة ومحادثات الحياة اليومية. ليس هناك منظورٌ ماركسيٌ أو غائيٌّ، ولا تاريخٌ اجتماعيٌّ أو أنواع التاريخ الأخرى التي تكشف عن الأسباب العميقة والروابط الخفية.

يستخدم الدمى لأنه تاريخ بدون أبطال، بدون دوافع أو أسباب أو نوايا خارجية. لا يتخذ وجهة نظر علمية في التاريخ، على عكس ماركس الذي أوجد له قوانين حتمية. كل ما يحدث هو وقائع وأحداث، حيث يلعب كل فرد جزءاً صغيراً. مثل الدمى في نظام يعمل بدون محرك دمى. هذا عكس نظرية المؤامرة: الخيوط ليست كلها بيد أي كان. إنه تاريخ آلي، تاريخ تلقائي، حيث التسلسل الزمني والجغرافيا يحددان تتالي الأحداث من مدينة إلى أخرى، أو مركز، على مر الزمن. إنه تاريخ ذو بنية أفقية، وحتى هذه البنية ليست خطاً  مستقيماً. بل هي خط متعرج ومنحن، يسير بدون ظلال.

يكمن هذا الاهتمام بالتاريخ نفسه، والبنى الآلية، في صميم لوحات جريرارد ريختر، الذي لدقته يعجب به كثيراً شوقي.١٣ في عصر الاستنساخ الميكانيكي للصور، لا يرسم ريختر لوحات، ولا يحاول أن يتنافس في فنه مع الميكانيكا أوالتكنولوجيا أو الوسائط، من أجل الأصالة أو التعبير الذاتي، بل ينقاد، عوضاً عن ذلك، نحو الصورة المستنسخة تقنيا. بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن هاجر من ألمانيا الشرقية إلى الغربية، وأصبح فنان استنساخ بشكل أساسي، حيث تكمن شاعرية وقوة أعماله في قدرته، ليس على التعبير الذاتي، بل على التحول إلى مترجم إنساني لصورة مستنسخة ميكانيكيا.

يتحلى تكرس شوقي للخطوط بكل من الدقة والخيال المماثل لخيال الأطفال: تُصنع الرسوم من خطوط متعمدة وآلية على حد سواء، وهي تتحرك عبر الزمن. تعطي شعوراً بالمؤقت والفوري والتحضيري. إنها رسوم تخطيطية تنفذ بدون تخطيط مسبق ويتحرك خطها المتموج والمائج وغير المنتظم حول الصفحة أو الورقة كما لو أنه يرسم خطاً على خارطة غير موجودة بعد. قد يتحول الخط بتمهل إلى شيء تشخيصي أوضح، من خلال الترابطات، إلى حيوان أو إلى برج، إلى شخصية أو إلى تل، ويمكن أن تتواجد معاً مختلف مسطحات الحيّ وترابطاتها المكانية في حالة من الحيزات الاحتمالية غير المتناهية من الإسقاط البصري. الخط مرسوم بشكل افرادي، وبدقة ووعي ذاتي، لكن شوقي —الرسام—يتابع الخط إلى أن يصبح عالماً على مسطح "أعتقد أن لذلك ارتباط مع سريالية سلفادور دالي أو ماكس ارنست. أشعر أن هناك علاقة في الأسلوب الذي حاولوا من خلاله التعامل مع كافة التفاصيل بطريقة شديد الدقة. الهدف هو جعل هذه التفاصيل مفصلة بشكل كاف لإقناع الناس بأن هذا الإجمال ً حقا المكثف الذي وضعوا عناصره مع بعضها ​​البعض موجود بالفعل. بحيث لا تبدأين بالشك ١٤​.


١ في حوار مع الكاتبة، نيويورك، ١ فبراير/ شباط، ٢٠١٥.

٢ الحوار نفسه.

٣ الحوار نفسه.

٤(إعادة زيارة)، في سوزان بفيفر وهيكي "Revisitation" ، جيسيكا مورغان كاتارينا مرتينس، إشراف على النشر، "وائل شوقي: العرابة المدفونة" (برلين، . لندن، جائزة مؤسسة ارنست شيرينغ الفنية، كونيغ بوكس، ٢٠١٤)، ص. ١٣٤.

٥(إعادة زيارة)، ص. ١٣٥ "Revisitation"،  مورغان.

٦ المصدر نفسه، ص. ١٣٦.

٧ المصدر نفسه، ص. ١٣٥.

٨ في حوار مع الكاتبة، نيويورك، ١ فبراير/ شباط، ٢٠١٥.

٩ ابن خلدون، "المقدمة" (برينستون: مطبوعات جامعة برينستون، الطبعة .الأولى، ١٩٦٩)، الكتاب الأول، الفصل الأول . المرجع العربي: مقدمة ابن خلدون أو ص. ٣٤.

١٠ المصدر نفسه.

١١حنة آرندت، "مفهوم التاريخ"، في "بين الماضي والمستقبل: ستة بحوث في (الفكر السياسي" (نيويورك: دار ذي فيكينغ بريس، الطبعة الأولى، ١٩٥٤ الترجمة إلى العربية: عبد الرحمن بشناق، دار جداول للنشر والترجمة، بيروت، ٢٠١٤​.

١٢ هاينريش فون كلايست وتوماس نيوميلر، "حول مسرح الدمى"، مجلة ، ذي دراما ريفيوف: المجلد ١٦ ، العدد ٣، عدد "الدمية" (سبتمبر/ أيلول، ١٩٧٢​ .٢٦– الطبعة الأولى في ألمانيا 1810 )، ص. ٢٢​، ​، ذي دراما ريفيوف: المجلد ١٦ ، العدد ٣، عدد "الدمية" (سبتمبر/ أيلول، ١٩٧٢).

١٣ في حوار مع الكاتبة، نيويورك، ١ فبراير/ شباط، ٢٠١٥.

١٤ الحوار نفسه. 



نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "وائل شوقي: الحروب الصليبية وقصص أخرى​​". صدرت الطبعة الأولى سنة 2016 عن منشورات سكيرا - شركة مساهمة محدودة. جميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطر.​