تسجيل الدخول
قائمة الفنانين
Encyclopedia of Modern Art and Arab World
موســــوعة الفـن الحديـــث والعالــم العربـــي
قائمة الفنانين

أحمد الشرقاوي

فك رموز الذاكرة

​بقلم إبراهيم العلوي
ترجمة فاليري عون

قد كان الشرقاوي أحد رواد النمط المعاصر من الرسم في المغرب، حيث عبرت مجموعة من الرسامين المغاربة في الفترة التي، تلت استقلال البلاد في الستينيات رغباتهم في تأسيس مجتمع جديد. وكانت هذه المرحلة حاسمة فعلاً من أجل دراسة السبل القادرة على إيصال الفن إلى مرحلة الحداثة. وبالنسبة لإنجازات الشرقاوي الإبداعية التي كانت تصنع وعياً تصويريا جديداً، مع إدخال بعض العناصر من الثقافة المحلية، فقد كانت الحل المناسب لجيل الفنانين ​الشباب الذين كانوا يبحثون عن هويتهم وعلاقتهم بـ "الآخر".

ولكن موت الشرقاوي المبكر والمفاجئ عام ١٩٦٧، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، أنهى هذه المسيرة الفنية الواعدة، مع وصول لوحاته إلى مرحلة جديدة من النضج. ولكنه في حياته القصيرة تلك قد ترك أعمالاً فنية عظيمة، نابعة من تفاعله الحيوي، وتجاربه في استعمال وسائط بصرية مختلفة، مثل التقاليد العربية والبربرية، ولغة الفن الحديث. وقد ذاعت شهرة الشرقاوي منذ أن كان طالباً في مدرسة باريس في فترة الستينيات، وسرعان ما عبرت شهرته الحدود؛ إذ كانت أعماله ومقارباته الفنية الفريدة تحمل قيمة رمزية عظيمة. وقد مات الشرقاوي في مرحلة حساسة من مراحل الجدل القائم بين الشرق والغرب، حول فكرة البحث عن الهوية والقيم، والثقافات الحديثة، مع الإبقاء على المسارات التاريخية المميزة لكل بلد.

التدريب البصري في المغرب

وُلد أحمد الشرقاوي في مدينة بوجعد الصغيرة الواقعة في سهل الشاوية، ينتمي والده إلى عائلة صوفية عريقة، تنتمي إلى أخوية الشرقاوية الصوفية التي تأسست عام ١٥٦٦ في عهد السلاطين السعديين. أما أمه فذات أصول بربرية من قبيلة الزيان التي تعيش في جبال الأطلس الأوسط، والتي تتمتع نساؤها بمهارات خاصة في حياكة الصوف والأشغال اليدوية.

وقد عاش أحمد الشرقاوي طفولة سعيدة، متنقلاً بين ثقافتين، تمثلت إحداهما بهذا المزيج المتمثل بالثقافة المغاربية المستقاة من الثقافتين الأمازيغية والعربية. وقد بدأ يرتاد كتّاب لتعليم القرآن والكتابة العربية، وذلك قبل أن يذهب إلى المدرسة الابتدائية الواقعة في مدينة بني ملال على سفح جبال الأطلس الأوسط التي هي من معاقل القبائل الأمازيغية المهمة.

ومن الجدير بالذكر أن البربر هم السكان الأصليون لمنطقة شمال أفريقيا، وهم يستخدمون أبجدية خاصة بهم، تُسمَّى "التيفيناغ"  التي لا تزال يستخدمها الطوارق حتى اليوم. وتشبه هذه الأبجدية مثيلتها المستخدمة في مخطوطات سبأ، وغيرها من مواقع الحضارات الأثرية في اليمن. ويدَّعي بعض المؤرخين أن البربر ترجع أصولهم إلى اليمن، ثم انتشروا منها في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، ناهيك عن انتشارهم جنوباً. وركَّز البربر في أعمالهم الفنية على استخدام الخطوط الهندسية التجريدية، مع رموز استخدمت في الغالب لتمييز القبائل، وتحديد شعائر الحياة، أو درء فأل الشر. كانت هذه الرموز بمثابة المخزون الزخرفي المتنقل من مكان إلى آخر بين فنون العمارة والخزف والحياكة والوشم وغيرها. ولا تزال هذه الفنون محفوظة في الذاكرة الجماعية البصرية لهذا الشعب.

ترك انخراط الشرقاوي في الثقافة الأمازيغية وفنونها أثراً لا يُمحَى في روح الفنان الشاب، وقد ظهرت هذه الآثار واضحة في أحد آخر أعماله الذي أطلق عليه اسم "إشارات من أمي"١.

في سن المراهقة انتقل الشرقاوي إلى الدار البيضاء؛ حيث تابع دراسته الثانوية. ولكنه في البداية لم يتكيف بسهولة مع الحياة في هذه المدينة الكبيرة الحديثة إذ عرفت الدار البيضاء في ظل الحماية الفرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية توسعاً كبيراً، وكانت تضم أكبر جالية أوروبية في المغرب. وفي هذه الفترة أيضاً وجدت المدينة نفسها في قلب المطالب الشعبية باستقلال البلاد. وتكيف الشرقاوي شيئًا فشيئًا مع الحياة "الكوزموبوليتانية" في الدار البيضاء، وبدأ يدرك تطلعات المغاربة في الحصول على الاستقلال، ومع ذلك استطاع أن يستفيد من الإمكانات الثقافية والفرص الاقتصادية في هذه المدينة الحديثة. وهكذا قرر أن يصقل - إلى جانب دراسته الثانوية - مهاراته في الخط العربي على يد أستاذ شهير. وهو الأمر الذي ساعده على كسب قوته والتحضير لانتقاله إلى باريس، من خلال تنفيذ عدد من الرسومات البيانية لشركة لوحات إعلانية.

وسوف يستفيد الشرقاوي من فن الخط كثيراً خلال هذه التجربة المهنية الأولى، وسيظل بالنسبة إليه مصدراً لا ينضب من الإلهام؛ إذ اعتبره فنًّا بحد ذاته، وهو ما قد ساهم جزئيًّا في تحديد رسالته الفنية المستقبلية، ورغبته بمتابعة دراسته الفنية في فرنسا. فشعر أنه يملك ما يكفي من النضوج لمواجهة المنفى؛ فقد كان يعيش في ظل تعددية ثقافية في طفولته وشبابه، في مجتمع له مظاهر فنية متنوعة، كهذه التي تعود إلى تقليد ما قبل الإسلام، فالتقليد الأمازيغي قد حصل عليه من والدته، الإرث العربي - الإسلامي من والده، وأخيرًا التقاليد الفرنسية التي اكتسبها خلال دراسته في الدار البيضاء في أثناء فترة الحماية. وسيساهم هذا التنوع الثقافي في هيكلة ذاكرة الشرقاوي الشاب، وسيسمح له بالتعبير عن توجهاته الفنية طور التكوين.

مدرسة باريس

انتقل الشرقاوي إلى باريس عام ١٩٥٦ مُسلَّحاً بهذه التجربة الوجودية الغنية، والتحق بمدرسة الفنون والحِرَف، وتخصص في دراسة الفنون التصويرية. وساعده هذا المجال في التعرف على التعبير البصري، وقدرته على صياغة أفكاره وإيصال مشاعره. فجاءت أعماله لتشهد على حساسيته الفنية، وحرية خطوطه. وبعد تخرجه في هذه المدرسة المرموقة انغمس الشرقاوي في الحياة الفنية الباريسية في ذلك الوقت، تمامًا مثل عديد من الفنانين ذوي الثقافات المختلفة، ليلتقوا في هذه العاصمة التي أصبحت مركزاً للبحوث حول الحداثة الفنية.

وقد أقام الشرقاوي في الحي اللاتيني، في منزل طلاب بلاد المغرب الذي كان ملتقى لنخبة المغرب التي تتلمذت في فرنسا بعد مجيئها من المغرب المستقل حديثًا. ومن بين الذين جمعته معهم روابط صداقة كان عالم الاجتماع عبد الكبير الخطيبي الذي تحدث معه بحماس عن مستقبل بلاده. وقد كتب الخطيبي حول هذا الموضوع قائلاً: "كنا نتناقش حول الثقافة الوطنية والسعي إلى فن يطرح أسئلة أساسية، كالعودة إلى الجذور، وتحديد مسار مختلف"٢.

وفي هذا السياق وجد الشرقاوي أرضاً خصبة للمحاكاة، وظروفاً مواتية لتنمية شخصيته وموهبته. وجد الشرقاوي في هذه البيئة أرضاً خصبة للأفكار المبدعة في غمار مهنة فنية، تعلم خلالها وبصبر حِرْفة الرسم. وبدأ، من خلال ترجمة أوجهه المختلفة، بأسلوب منمق، واقتصادِ الوسائل. ومن ثَم بدأت لوحاته تتحرر تدريجيا من جميع الدلالات إلى العالم المتجرد.

وفي عام ١٩٦٠ التحق الشرقاوي بمدرسة الفنون الجميلة في باريس، ونظاً لخلفيته المهنية ونشاطاته اللاحقة لم يَمض وقت طويل حتى انخرط في مدرسة باريس التي كان يطغى عليها الفن التجريدي. واكتشف وقتها أعمال "روجيه بيسيير"٬ وكما ذكر الخطيبي فقد أعجب الشرقاوي أيضاً بأعمال "بول كلي" الذي كان استخدامه للرموز محفِّزاً قويا٬ً سمح له باستذكار "جذور الخط العربي"٣. وستشكل أعمال هؤلاء الفنانين الكبار مرجعاً قيِّماً له في أثناء تأمله باللغة البصرية، ووسائل التعبير عن "الحاجات الداخلية".

وفي مدرسة باريس وجد الشرقاوي حقلاً من الأنشطة طالما حلم بالمشاركة فيه، ولكنه أدرك أن المهمة لن تكون سهلة، وأن "الرغبة العارمة بدمج المعرفة الغربيّة المعاصرة دون فهم بعض أسسها، تبدو بكل وضوح تجربة سخيفة وقاسية"٤. لذا زوَّد نفسه بالوسائل اللازمة للتعلم والفهم، وانطلق في رحلة طويلة من التأمل في وسائط التمثيل وطرقها وخصائصها. كما أصبح من الواضح بالنسبة إليه أنه ليس من السهل إيجاد مكان له في مدرسة باريس، ومواجهة العقبات نفسها التي واجهت كُتَّاب شمال أفريقيا الناطقين بالفرنسية خلال فترة الاستعمار، كما جاء على لسان "إدمون عمران المالح" الذي قال: "كان فنانو شمال أفريقيا يجدون ترحيباً بتعبير ما، وتأكيداً بالنفي الأبدي​"٥.

وإدراكاً منه لهذه المعضلة حاول الشرقاوي التغلب على حتمية هذا النمط، وسار على خُطى مؤسِّسي أدب شمال أفريقيا الناطقين بالفرنسية الذين وضعوا صيغة فريدة، وخلقوا لغة جديدة هي لغة "الآخر" التي لم تكن أجنبية كليَّة. واقتناعاً منه بضرورة ربط فنه وأعماله بالحداثة الخلاقة بدأ الشرقاوي يستكشف هويته الفنية الخاصة.

ثم بدأ الشرقاوي بالتجريب على قطع الخيش، فاستكشف خصائص هذه المادة اللدنة، وأخذ يقصُّها ويحوِّلها، ويلصقها لتشبه قماش الرسم التقليدي، فأعطاها شكلاً ومعنى جديدين. وقد استخدم قطعاً من الخيش الخام المقطَّع إلى أشكال هندسية، مع تصاميم وألوان حملت معاني مجازية معينة. لكن الشرقاوي أراد التحرر من أغلال التشابهات لتصويرية، لذا سرعان ما انسحب من مدرسة باريس، وقرر أن يسافر بحثاً عن طرق جديدة في التعبير. وفي عام ١٩٦١انطلق في رحلة دراسية إلى بولندا، التحق من خلالها بمدرسة الفنون الجميلة في وارسو، وعمل في ورشة "هنريك ستازوسكي"٬ مُؤسِّس الحركة الفنية المحلية الرائدة. مكَّنته هذه الرحلة من التفاعل مع البيئات الثقافية والسياسية المختلفة، وساعدته على إنعاش وتجديد رسوماته وصوره.

الشغف بالرموز

وسافر الشرقاوي إلى المغرب في سنة ١٩٦٢ للراحة والاستجمام بعد زيارته لوارسو إلا أنه انتهز الفرصة للبحث في الفن الشعبي في المغرب، بتمو الرموز، فبدأ بتطوير أسلوب شخصي أْبرَز الرموز التي سكنت روحه منذ الطفولة، وأخذ يشكِّل أصداءها الإبداعية. وصلت أعماله في هذه المرحلة إلى منعطف كبير، انعكس في التراكيب التي اشتهر بها فيما بعد. 

أنتج الفنان مجموعة من اللوحات القماشية الضخمة المغطاة بالخيش، رسم عليها رموزاً سوداء مُقلَّمة محاطة بهيكل بيضوي، تتخلله ألوان زاهية. وقد تميَّزت هذه الأعمال بتقدم الرموز على ما عداها، وهو ما أكسب الشرقاوي تفرُّداً وتميزاً. وقد مهَّدت هذه اللوحات الطريق لظهور مواجهة بين الرسم وكتابة الرموز، كما خلقت استخداماً متكاملاً لاحتمالاتها. مرَّ الشرقاوي بمرحلة حالكة بين عامي ١٩٦٣ و ١٩٦٤، فانعكس توتره بصورة جلية في تجسيدات رموزه التصويرية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من لوحاته، ويبدو أنه ينمو ويتطور انطلاقاً من المواد والألوان المستخدمة. 

ولذا، وفي عام ١٩٦٤، شهدت أعمال الشرقاوي مرحلة بدأ فيها الرمز يظهر تدريجيا من خلف المادة، عبر الألوان التي أعطته شكلاً ورونقاً، وباتت رسوماته أكثر إضاءة. فبدأنا نرى اللون الأبيض، وهو يظهر أكثر فأكثر ليحدد اللون الأسود للرسوم التصويرية التي تشكل الجزء الرئيس من اللوحة، وتطورت لوحاته لتعكس روحانية واسعة، ومادة أكثر إشراقاً، وأحادية لونٍ أكثر إضاءة. وعرفت هذه المرحلة التي تميزت بخصوبتها بحثاً عن المطلق، واهتماماً متزايداً بالتصوف. ومن هنا نجد أن "إدمون عمران المالح" كان محقا بوصف أعمال الشرقاوي بأنها "تحول في النظام التصويري لتجربة ملهمة صوفية بالتأكيد"٦.

وبالتوازي مع الرسم بالألوان الزيتية استكشف الشرقاوي تقنيات متنوعة، وأنتج عدداً كبيراً من اللوحات، مستخدماً الألوان المائية والريشة والحبر الصيني على ورق النشاف. وتشكل هذه اللوحات نوعاً من مدونة للرسوم التصويرية التي أنتجها الفنان، وبمثابة مصفوفة متنقلة في تقنية الرسم، كما أنها تمثل الاهتمامات الرئيسة للفنان، وتسلط الضوء كذلك على خصوصية كل تقنية. فمن السهل أن نرى انعكاس البحث في الذاكرة عن رموز من الجذور التي تمكن من إدراك معناها وأبعادها الهندسية، وإمكاناتها التعبيرية، فمِمَّا لا شك فيه أنها تشكل إحدى أسرار تفرُّد أعماله. وقد تابع الشرقاوي صقل  جماليات الشكل بقوة، حتى موته المبكر والمفاجئ عام ١٩٦٧.

  1. عبد الكبير الخطيبي، تصوير الفنان أحمد الشرقاوي. عمل جماعي، طبعة شوف، الدار البيضاء ١٩٧٣.
  2. عبد الكبير الخطيبي، المرجع نفسه.
  3. عبد الكبير الخطيبي، المرجع نفسه.
  4. عبد الكبير الخطيبي، المرجع نفسه.
  5. ادمون عمران المليح، أحمد الشرقاوي، شغف الإشارات، عمل جماعي.، طبعة ريفو نوار، باريس ١٩٩٦.
  6. جان كلارنس لامبرت، أحمد الشرقاوي، شغف الإشارات، عمل جماعي.، طبعة ريفو نوار، باريس ١٩٩٦.

      

 نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "دائماً الآن: خمس قصص من المجموعة الدائمة". صدرت الطبعة الأولى سنة ٢٠١٢ عن دار بلومزبري مؤسسة قطر للنشر، الدوحة، قطر. جميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف ​العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطر. تحرير د. ندى الشبُّوط.