تسجيل الدخول
قائمة الفنانين
Encyclopedia of Modern Art and Arab World
موســــوعة الفـن الحديـــث والعالــم العربـــي
قائمة الفنانين

سالم الدباغ

بلاغة الصمت

​بقلم مي مظفر
ترجمة سلام شغري

حينما تتحدث إلى الفنان العراقي سالم الدباغ تجده قليل الكلام، ميالاً إلى الصمت، شبيهاً بلوحاته التجريدية بالأبيض والأسود التي يعبر فيها عن كثير باستخدام القليل من التفاصيل. وهو متأنٍّ في عمله ومتروٍّ، وعطاؤه متواصل، وقلما تحيد مخرجاته الفنية المتواصلة عن أسلوبه ولغته الفنية المختزلة شكلاً ولوناً.

أجلس أمام لوحة صغيرة لسالم الدباغ (٢٥x٣٠سم) مرسومة بالزيت على الخشب (٢٠٠٥)١، تتكون من أرضية رمادية، تتدرج إلى الأعلى مكونةً كتلة تزداد دكنة كلما ارتفعت إلى الأعلى، يلحظ المرء على الجانبين ضربات بالأحمر الباهت لا تكاد تُرى. هو تكوين يوحي بمشهد طبيعي يبدو غامضاً ومربكاً في البداية، وقد يتضح كلما أمعنت النظر فيه، أو توغلت إلى أعماقه، ليكشف عن تفاصيل متعددة الدلالات: هناك مكعب عائم في الفضاء، وربما خيمة على أرضية بيضاء، يتسلل إليها الضوء من فتحة بين القائمتين، شيء من هذا وذاك.

حيرة كهذه تكاد تتجلى في أعمال الدباغ جميعها، فتستدرج العين بسحرها، وبقوة حضورها، ورهافة خطوطها، وذلك لأن عوالم الدباغ الغامضة تتمثل الوجود بالأبيض والأسود في أغلبها، والكتلة وما يوازيها ويكافئها من فراغ. ​وفي لوحاته صمت عميق، ولكنه صمت غني بالكلمات، وباعث على الاضطراب أحياناً.

سالم الدباغ (١٩٤١)  من الرسامين العراقيين الموهوبين الذين برزت مواهبهم في منتصف ستينيات القرن العشرين، وهو واحد من هذا الجيل الذي تحول لديه العمل الفني إلى ممارسة ثقافية، وأسهم في دفع الحركة الفنية الحديثة في العراق إلى آفاق التجريب ​القائم على الجرأة في الخيال، والمغامرة في الطرح.

تميَّزَ سالم منذ بداية حياته الفنية بالتمرد على الأساليب التقليدية، وكان واحداً من أعضاء جماعة "المجددين (Innovators)" (تأسست عام ١٩٦٥) التي يتميز أعضاؤها باستخدام التقنيات الحديثة، والأساليب التجريدية ذات المضامين الفكرية. هو فنان مقتصد في تكويناته وألوانه إلى حد بعيد، جعله يتمسك بالأساليب التجريدية ذات البعد الرمزي، وكان من أوائل الفنانين العراقيين الذين تدربوا على فنون الحفر والطباعة (printmaking)، وعلى الرغم من أنه مُقل في إنتاج أعمال الحفر هذه فإن بصمات هذا الفن واضحة على أعماله الزيتية.

يقول سالم الدباغ في رسالة شخصية: إنه في طفولته لم يكن يهتم بالرسم، ولكنه انجذب إلى هذا العالم الكبير من خلال صور لأعمال "فان كوخ"، شاهدها عن طريق الصدفة، ،فاستوقفته بسحرها، ويقول سالم إنه كان صبياً في السنة الأولى من الدراسة المتوسطة ، حين أصبح "فان كوخ "معلمه الأول، ودفعه هذا العشق الكبير إلى مسار جديد لا يعرف إلى أين سيقوده.

كان سالم مقيماً في مدينة الموصل حين قرر دراسة الفن، فالتحق بمعهد الفنون الجميلة في بغداد عام ١٩٥٨، وهو الصرح التعليمي الوحيد للفنون آنذاك. وبعد أن أنهى دراسته في المعهد التحق بأكاديمية الفنون الجميلة التي كانت قد فتحت أبوابها للدراسة عام ​١٩٦٢، ليصبح من طلاب دورتها الأولى.

وفي معهد الفنون الجميلة - المختبر الأول والأهم للفنانين العراقيين - تتلمذ سالم على يد الأساتذة فائق حسين، وجواد سليم، وخالد الرحال، وإسماعيل الشيخلي، وغيرهم. وحين انتقل إلى الأكاديمية كان معظم هؤلاء الأساتذة قد انتقلوا للتدريس فيها. وقد استعانت الأكاديمية يومئذٍ بخبرات أساتذة أجانب، كان في مقدمتهم البولندي "رومان أرتوموفسكي" الذي أضاف إلى المنهج دراسة فنون الحفر والطباعة (printmaking)، واليوجوسلافي "بوركو لازسكي" الذي عُرف بخبرته في رسوم الجداريات. وكلاهما كان فناناً حداثياً، وكان لهما تأثير بالغ على دفع الطلبة إلى ارتياد آفاق جديدة في طرق التعبير، والخروج عن الُأطر التقليدية.

تميزت حقبة الستينيات في بغداد، منذ مطلعها، بالاحتدام السياسي والثقافي، خاصة عقب التطورات التي أحدثها انقلاب عام ١٩٥٨ الذي أسقط النظام الملكي، وأقام النظام الجمهوري. فقد أصبح العراق منفتحاً على العالم بمعسكريه: المثالية الاشتراكية والليبرالية، شرقاً وغرباً. ونتيجة لذلك ظهر السجال الطويل والمحتدم حول طبيعة الفن، وموقف الفنان منه ومن الحياة: ماذا يرسم؟ وكيف يرسم؟ ولمن يرسم؟

 كان هذا الانفتاح على نظريات الفكر الاشتراكي في مقابل الفكر الليبرالي، واحتدام النقاش حول ذلك بين المثقفين من الأدباء والفنانين، يجد صداه على صفحات الجرائد والدوريات، التي كانت تصدر في تلك المرحلة الانتقالية على مدى سنوات، كما كان يدور بين المثقفين والمبدعين، أدباء كانوا أم فنانين .ويمكن لمن يتابع تلك النقاشات، ويقرأ ما كان يظهر في الصحافة آنذاك، أن يلمس التفاوت في الآراء وحدة التيارات المتداخلة في مقدمتها الآراء التي تتبنى حرية التعبير في الفن، وتدعو إلى البحث عن أساليب جديدة في الإبداع، وهو على النقيض من ضرورة الالتزام بالموضوعات المجتمعية الواقعية. وكان لهذه النقاشات تأثير واضح على وعي فناني العراق، فتمثل بدعوة الجيل الجديد إلى البحث عن التميزالفردي، وامتلاك الرؤية الخاصة للفنان، خلافاً للمرحلة السابقة  -أي مرحلة الخمسينيات - حين كان همُّ الفنان البحث عن: "مصادر الرؤية الفنية للجماعة "٢ .

لقد توجهت بظرة الفنان إلى داخله، للتعرف إلى ذاته وعدم الاكتفاء بالنظر إلى ما حوله من البيئة الطبيعية أو الاجتماعية، أي أن دعوته كانت لإقامة حوار بين الذات والعالم الخارجي. ومما أسهم أيضاً في زيادة الوعي، وبث الروح الجديدة في الحركة التشكيلية شبه الراكدة آنذاك، عودةُ مجموعة من الفنانين إلى العراق، وذلك بعد أن أكملوا دراساتهم الأكاديمية في معاهد مختلفة من العالم. فقد حملوا معهم أفكارهم وتجاربهم، وحماستهم التي ألهبت الساحة الفنية وَأثْرَتها وعياً وعمقاً.

 فالذي كان يجمع بين شباب ستينيات القرن الماضي، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، هو تعطشهم للارتقاء بالحركة التشكيلية في العراق، والالتحاق بركب التطور العالمي بخطى مسرعة. تمثَّل ذلك بصورة جلية في الدعوة إلى التمرد على الأساليب التقليدية، والقوالب النمطية. وكانت حرية التعبير والانطلاق بالخيال تدعوهم إلى ارتياد آفاق الطبيعة غير الملموسة، كالفضاء والأفق والامتدادات غير المتناهية. فظهرت أعمال تجريبية، تميزت بالتنوع في استخدام التقنيات الحديثة خاصة "الكولاج"، وإغناء السطح التصويري للوحة بعناصر منحوتة بارزة، أو زخرفية مستمدة من التراث الفني المحلي.

في هذه الأجواء كان سالم الدباغ وأقرانه يتلقون تعليمهم في أكاديمية الفنون الجميلة حديثة التأسيس، وكان ذلك المناخ الثقافي والفني ذا فضل عظيم على بلورة شخصياتهم وآرائهم الجديدة. يقول سالم: "في بداية السنة الأخيرة (من الدراسة في الأكاديمية) بدأت تتكون فجوات أشبه ما تكون بصراع الأجيال، وأخذنا نتحمس لكل ما هو جديد ومطروق في العالمين العربي والأوروبي. وكانت هناك تأثيرات من قبل البعض، ودفع الشباب بعضهم بعضاً... هذا الحوار فيما بيننا وبين أساتذتنا كانت له نتائجه"​٣.

 يفصح سالم الدباغ عن الموقف الجديد الذي كان شباب الستينيات من القرن الماضي يلتزمون به، والذي توصلوا إليه بأنه نتج عن: "الانفتاح على الثقافات العالمية، والنضوج الفكري للإنسان العراقي، بل العربي، وهو يصنع حضارته وفنه بروح ذات ثقة ​عالية بالنفس"٤ كما يؤكد الدباغ أهمية دورالأساتذة الأجانب في تغذية هذه التيارات الجديدة في التوجيه التربوي والفني، فقد فتح " أرتموفسكي"٥ أمامهم أبواباً واسعة جديدة، بل "لعله كان يغذي طموحاتنا...". على حد تعبيره.

كان  "أرتموفسكي" رساماً وحفَّاراً ذا أسلوب تجريدي، يستمد أفكاره وموضوعاته من الطبيعة والواقع المحيط به، وهو يهتم كثيراً بالضوء والأفق والسماء والأرض. وكان سالم الدباغ من أكثر المتأثرين أساتذته، ورسم أول لوحة تجريدية عندما كان طالباً في الأكاديمية. يقول سالم: "كانت الطبيعة مصدر إلهامي في تلك الفترة".٦ وفي العرض الأول لجماعة "المجددين" في بغداد ١٩٦٥، عرض سالم الدباغ لوحات بدت جريئة في تجريدها اللاشكلي، أو شبه الهندسي.

في المملكة العربية السعودية، حيث عمل مدرّساً بعد أن أنهى دراسته الفنية في بغداد، وقف سالم أمام الحرم المكي مندهشاً، فقد وجد نفسه واقفاً أمام "أجمل لوحة واقعية تجريدية". ثم تعزز موقفه من الأسلوب التجريدي عندما ذهب إلى البرتغال في زمالة دراسية، بدعوة من مؤسسة "كولبنكيان" للتدرب على أعمال الحفر والطباعة (١٩٧٦-١٩٦٩). هناك أدرك الدباغ بكل يقين: "أن العمل التجريدي هو الأسلوب الوحيد الذي يلبي طموحي للوصول إلى الجمال الخفي غيرالمرئي".٧

أغلب أعمال الدباغ رسم زيتي على القماش أو الخشب، إلى جانب أعماله المحفورة المتميزة. وتكويناته حافظت على مفرداتها، وطابعها الساكن، ولم تتعرض لتغيير كبير، فهي تنمو وتتشكل من الداخل، ولا تفرط ببنائها المختزل المتماسك. لقد امتلك سالم أسلوبه وشخصيته من خلال بحثه البصري المتواصل، وتمسكه بما توصل إليه. كما ظل محافظًا على صياغته التجريدية، متطلعاً إلى اختراق أقصى أبعاد الفضاء الخارجي حتى العدم.

أَوْلى سالم الدباغ، منذ بداياته الفنية الأولى، اهتماماً كبيراً لمسألة الكتلة والفراغ في تكوين أعماله. وكان هذا الوعي قد تبلور لديه من خلال المناقشات التي كانت تدور بين الطلبة وأساتذتهم في أكاديمية الفنون الجميلة. ومن تلك الانطلاقة الأولى كان قد توصل إلى معادلة فنية، يرى فيها الكتلة موازية للفراغ، وهو ما ظل يتكرر في أعماله على امتداد الزمن. ويقول في مقابلة أجراها معه الكاتب والصحفي سعد هادي: "أستخدم الفراغ كتلةً موازية للكتلة المشغولة في اللوحة، وأنا الآن أمر بمرحلة صعبة، أحاول إيجاد سبيل للخروج منها، وكلما ازدادت لوحتي فراغاً امتلأت بالفراغ"٨. لدى التمعن في تفاصيل الكتلة التي يرسمها الدباغ يلاحظ المشاهد أن الكتلة شفافة على الرغم من سواد لونها، بل تبدو أحياناً مخلخلة، وتظهر على حافاتها شعيرات دقيقة، مما يوحي بأن الشكل قد يكون نسيجاً رقيقاً، وليس كتلة صماء. وهو أمر يوضحه الفنان عندما يؤكد أن عينيه بدأتا تستعيدان خزين مَشاهد من طفولته، وهي مشاهد مليئة بمفردات حياة البادية والمدينة معاً، مثل: خيمة البدو السوداء المنسوجة من وبر الماعز، والمؤثثة بالفرش والبسط الملونة ، فيقول: "كنتُ محاطاً بكَمٍّ من السواد... حتى أحلامي لا أراها إلا بالأبيض والأسود"٩. أمور صغيرة كهذه التي ترى في بيئة الفنان تثبت قدرته على استحضار مخزونه والذي يستطيع في وقت لاحق أن يستحضره من أجل تطوير فنه البصري.

من خلال الفضاء الفارغ والمفردات المختز​لة شكلاً ولوناً في اللوحة يمتلك سالم الدباغ مطلق حريته في التعبير، عما لا يقال ولا يرى. فهو يعبر عن كل شيء في اللاشيء، أو بعض الشيء. ويحتار المرء أمام لوحته بقدر ما ينجذب إليها، ربما لغموضها، أو لقدرتها الخارقة على امتلاك فضول المشاهد، واهتمامه بأدائها المتقن، وخطوطها الأخاذة. فلوحة الدباغ مليئة بالأسئلة، وهي تدعو المشاهد إلى سبر أغوارها، والكشف عن أسرارها، وفضِّ مكنون صمتها وسكونها، حتى في الظروف الساخنة الضارية التي عاشها، ويعيشها العراق.

إلى جانب كونه رساماً ممتازاً، فإن سالم الدباغ فنان أعمال الحفر والطباعة قدير، فقد درس فن الجرافيك مع أستاذه "أرتوموفسكي" في أكاديمية الفنون الجميلة، وكانت المرة الأولى التي تدخل فيها هذه المادة في مقررات الدراسة الفنية في العراق. وفي البرتغال، حيث تدرب سنتين على فنون الطباعة والحفر، أبدع فنا خاصا به. يقول عنه رافع الناصري زميله في البرتغال، وزميله في التدريس بمعهد الفنون الجميلة في بغداد: "تتميز أعمال سالم الدباغ الجرافيكية - كما شاهدتها في تجربته في البرتغال، وهي دائماً مطبوعة بالأبيض والأسود - بسطوحها المرهفة عند استخدامه طريقة الحفر الجاف. فخطوطه الحساسة جدا تميزه عن كثير من الحفَّارين العراقيين، وهي الخطوط التي تتشكل منها الدرجات اللونية والسطوح المتنوعة، ما بين التناغم والتضاد الشديد"١٠.

 سالم الدباغ يقيم ويعمل في العراق، فهو من القلة، بل الوحيد من جيله الذي لم يهاجر، ولم يغادر العراق إلا مدة قليلة، عندما اشتدت فيها الفوضى الداخلية بعد الاحتلال الأنجلو - أمريكي، ثم عاد بعدها إلى بغداد، ليستأنف حياته متفرغاً للعمل الفني، يقيم معارضه خارج العراق، ويشهد خرابه وتمزقه، وعجائب ما يدور فيه.

  1. أقام سالم الدباغ معرضاً شخصياً في قاعة "الأورفلي"  في عمان ٢٠٠٥.
  2. شاكر خسن آل سعيد، فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ١٩٨٨، جزء ٢، ط١، ص ٣٣.
  3. المصدر نفسه ص. ٥٥.
  4. وذلك ما عبرت عنه بصورة جليَّة جماعة الرؤيا الجديدة، فقد جاء في بيانهم (١٩٦٩): " الفن... ممارسة موقف إزاء العالم وعملية تجاوز مستمرة واكتشاف لداخل الإنسان من خلال التغيير".
  5. فصول من تاريخ الفن التشكيلي في العراق، ص. ٥٥.
  6. بريد إلكتروني مرسل من طرف الفنان إلى مي مظفر، ٢٢ يوليو ٢٠١٢.
  7. المصدر نفسه.
  8. مقابلة مع الفنان أجراها الأديب الصحفي سعد هادي، موقع إيلاف، ٣٠ أكتوبر ٢٠٠٣​: http://www.elaph.com/web/archive/1067501762433764400/htm
  9. بريد إلكتروني مرسل من طرف الفنان، إلى مي مظفر.
  10. منقول عن رافع الناصري في حديث خاص مع الكاتب.

 

نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "دائماً الآنخمس قصص من المجموعة الدائمة"صدرت الطبعة الأولى سنة ٢٠١٢ عن دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر، الدوحة، قطرجميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطرتحرير دندى الشبُّوط.