تسجيل الدخول
قائمة الفنانين
Encyclopedia of Modern Art and Arab World
موســــوعة الفـن الحديـــث والعالــم العربـــي
قائمة الفنانين

وائل شوقي في حوار مع عبد الله كروم

 

​​​​​​​​جرت هذه المقابلة في مدينة دوسلدورف (ألمانيا) عام ٢٠١٤، ضمن الاستعدادات لإقامة معرض "وائل شوقي: الحروب الصليبية وقصص أخرى"، وهو ثالث لقاء بالفنان أثناء الإعداد لهذا المعرض في المتحف العربي للفن الحديث، تم خلاله اعتماد هيكلية العرض والَمشاهد المزمع تقديمها. ولقد تم​ الاتفاق على خلق جو خاص بالمتحف يجعله مكاناً للسرد أمام الزوار الذين سيشاهدون مجموعة من الشخصيات تلعب أدواراً حقيقية وخيالية. كما تمت مناقشة قصص سيناريو الأفلام وعملية إنتاجها، إلى جانب الحديث عن وضعية الشخصيات  المؤلفة من الرسومات والدمى، باعتبارها قطعاً جمالية مستقلة. دارت المقابلة في استوديو إنتاج الفيلم الثالث "كباريه الحروب الصليبية: أسرار كربلاء" (٢٠١٥)، وكانت فرصة مثالية للحديث مع الفنان عن قراءته الشخصية للأماكن الجغرافية، والتاريخ، .والمصادر الأدبية التي استوحيت منها أعماله، وللتعرف على مقاربته في ربط هذه العناصر عبر إنتاج رواياته الخاصة.

 

عبد الله كروم: يتضمن معرض الدوحة سلستي أفلام، ومجموعة من الرسومات وعناصر أخرى تتيح للجمهور مشاهدة وفهم مجموعة  من أعمالك ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والأدب والأساطير. وإذا أخذنا فيلم "كباريه الحروب الصليبية: ملف عرض الرعب" (٢٠١٠) باعتباره الجزء الأول من ثلاثية الفيلم، ما هو العنصر الذي يحدد الجغرافيا أو التاريخ؟ هل هو خط الزمن أو رقعة المكان؟

 

وائل شوقي: الجغرافيا يحددها موقع الإنتاج. إذ تم إنتاج الفيلم الأول في إيطاليا، والثاني في فرنسا، والثالث في ألمانيا. وأنا هنا أتحدث عن موقع الإنتاج وليس عن جهة التمويل أو التكليف لإنتاج تلك الأفلام. وإن تصوير أفلامي في تلك البلدان الثلاثة لأمر بالغ الأهمية، إنه يربط بين أقوى ثلاث دول وقفت خلف الحروب الصليبية.

إلى جانب اعتمادي كلياً على أعمال المؤرخين والكتّاب العرب خلال كتابة نصوص الأفلام، على سبيل المثال ابن القلانسي، وابن جبير، وابن الأثير، كانت رواية الكاتب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب" (١٩٨٣) المصدر الأول، أو بالأحرى الدليل الأول في انتقال القصة من بلد إلى آخر عبر التسلسل الزمني للحروب الصليبية. إلا أني اعتمدت على المصادر التاريخية في كتابة نصوص الأفلام. وتعد سلسلة سهيل زكار حول الحروب الصليبية مرجعاً هاماً لنصوص "كباريه الحروب الصليبية ".

كما أن العلاقة بين الجغرافيا والأفلام تحددها مختلف المواد والدمى المستخدمة في تصوير كل فيلم. فأول فيلم تم تصويره في بييلا بإيطاليا عرف استخدام دمى أوروبية من متحف في تورينو تعود لشخصيات تاريخية. ويبدأ الفيلم بخطاب للبابا أوربان الثاني عند بداية الحروب الصليبية. ويغطي (الفيلم) السنوات الأربع الأولى فقط من الأحداث. ومن المثير للاهتمام أن الطابع الأوروبي غلب على سينوغرافيا الفيلم، بالرغم من أن المشاهد هناك تقدم وجهة النظر العربية بشأن الحروب الصليبية، حتى أن الدمى الأوروبية تحكي قصة المؤرخين العرب بلغة عربية فصحى.

أما الفيلم الثاني فقد تم تصويره جنوب فرنسا. وهو يعود بالتاريخ إلى هذه المنطقة التي لعبت دوراً كبيراً في الحروب الصليبية، كما أن المنطقة تشتهر بصنع التماثيل المسيحية "سانتون". وقد أنتجت الدمى مجموعة من الحرفيين المتخصصين في صنع هذه الأشكال الخزفية الصغيرة والملونة يدويا. كان التحدي يتمثل في صنع أجزاء متحركة من الخزف.

الفيلم الثالث يختلف عن سابقيه، ويدور حول ضلوع البندقية في الحملة الرابعة من الحروب الصليبية. لذلك صنعت الدمى من زجاج المورانو للإشارة إلى تورط البندقية في الحروب الصليبية في تلك المرحلة. ولقد أبصرت الفكرة النور قبل أكثر من ١٥ عاما عندما كنت أقرأ رواية لخوسيه ساراماغو "الإنجيل بحسب يسوع المسيح، ١٩٩١"، وفيها يحاول المؤلف تخيل يسوع المسيح وهو يسأل الله: كيف أصبحنا في غاية الضعف والهشاشة؟ نملك روحاً مذهلة وعقلاً وأفكاراً وإبداعاً تضمنها هذا الجسد الهش القابل للكسر والذي يمكن أن ينتهي في لحظة. يحتوي الفيلم على جيش بأسره من القادة وأناس مصنوعين من الزجاج وهم يركضون وراء السلطة، لذلك فإن موضوع هشاشة الجسد الذي يتجلى في أساليب الإنتاج، يعكس المشاعر التي يقدمها العمل للمشاهد.

 

عبد الله كروم: من الواضح أن ارتباط الأفلام بمواقع التصوير قد أثر على المشاهد التصويرية وعلى بنية الأفلام. فما الذي يشكل أهمية بالنسبة لك؟ هل هو موضوع السلطة والصراع عليها، أم هي أيضاً القصص وما تمثله من مقاربة أدبية للتاريخ؟ هل من المهم للفنانين أو لأي عمل فني أن يكون مبنياً على مصادر وثائقية، أم تفضلون العمل مباشرة في كفاح وصراع مستمر؟

 

وائل شوقي: ليس باستطاعتنا تحديد مدى صحة هذا النص التاريخي أو ذاك؛ إذ تعاملت مع هذا الفيلم ومع التاريخ الذي يحكيه باعتباره عملاً بشريا. سؤالك مهم لأن التاريخ شكل العلاقة بين الغرب والشرق وأتاح لنا فرصة فهم مصادرنا الخاصة والتي، مرة أخرى، نجهل صحتها من عدمها.

 

عبد الله كروم: لعلك تستجوب التاريخ المكتوب، أو مفهوم الثقافة بمعناه التراثي.

 

وائل شوقي: كفنان أؤمن بإمكانية تحويل فكرة إلى خلق جديد لفهم شيء مختلف... شيء جديد. فعوضاً عن إنتاج أرشيف جديد بهذا النص التاريخي، اكتشف المزيد من خلال التعامل مع النص وتحويله إلى قراءة جديدة. لقد بدأ التصوير في ألمانيا مروراً بفرنسا وإيطاليا ودمشق وحلب والقدس. ومن المثير للاهتمام أن تحتضن مدينة دوسلدورف الإنتاج النهائي لهذا الفيلم لأن الحملة الأولى من الحروب الصليبية، بحسب الكثيرين، بما في ذلك المصادر الأوروبية، انطلقت من هنا في منطقة الراين. ولعل المثير أيضاً هو رصد التغير المستمر الذي يطرأ على وجهات النظر حول ما حدث خلال آلاف السنين من تاريخ البشرية. كان للمسيحيين عدو آخر خلال ذلك الوقت، اليهود. ولقد ارتُكبت العديد من المجازر هنا، خصوصاً في منطقة الراين، اعتقاداً منهم أن إفناء اليهود سيجلب مساعدة الله للمسيحيين في قتل المسلمين والسيطرة على القدس. ولا تذكر هذه المصادر حدوث أية مشاكل بين اليهود والمسلمين في القدس آنذاك.

 

عبد الله كروم: ما حدث في هذه المنطقة حتى قبل العصور الوسطى، تحديداً في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين قبل فترة بعيدة، لا يزال يؤثر على العالم إلى اليوم؛ فمراكز الحضارة على طرق الذهب والملح واللؤلؤ والتوابل والحرير ربطت منطقة الشرق الأوسط والأراضي المقدسة بباقي أنحاء العالم. وإن التاريخ الموثق عن الحروب الصليبية شبيه بنزاعات أخرى عديدة، مع اختلاف في وجهات النظر والتفسيرات، تِبعاً للتحالفات والاختلافات بين المناطق المتصارعة. عندما تشاهد حركة دائرة  البروج في فيلم "كباريه الحروب الصليبية: أسرار كربلاء" وكثرة الحديث عن عودة الصراع، فهل القدس عنصر مركزي في هذا الصراع؟


وائل شوقي: بكل تأكيد، القدس مركزية وفقاً للكتب والمعتقدات الدينية، ولطالما كانت القدس كذلك. المثير هو أن خطاب البابا أوربان الثاني، في كليرمون فيران في فرنسا، قد تم توثيقه في وقت لاحق على الرغم من أنه من المفترض أن يكون الخطاب الأكثر أهمية خلال تاريخ الحروب الصليبية الممتد على مائتي عام. لقد كان خطاباً طويلاً، لدرجة أن بعض الكتابات قالت إنه دام عشرة أيام. تنقل النسخ الأربع المختلفة من الخطاب في معظمها النقاط نفسها الموجهة إلى المسيحيين الأوروبيين: "أنتم تحاربون معاً لأنه ليس لديكم ما يكفي من الأراضي. إذهبوا إلى ذلك المكان يقصد القدس وسوف تجدون مساحات أوسع وموارد أكثر". لذلك كان هناك دعم أيضاً من هذا الجانب الديني.

 

عبد الله كروم: لأن عدد السكان في أوروبا كان كبيراً.

 

وائل شوقي: نعم، لأن أوريان الثاني آمن، باعتباره مسيحياً وبابا للمسيحيين، أن له الحق في الحصول على مدينة يسوع المسيح. وكما قلت، لطالما كان عدد السكان في أوروبا كبيراً.

 

عبد الله كروم: أطلق على المعرض في المتحف عنوان "الحروب الصليبية وقصص أخرى". فهل معنى "قصص أخرى" وجود قصص أخرى في ذاكرتكم؟ وهل هي أيضاً مواضيع فنية شغلت بالكم، أو تحقيقات وأنماط وتفسيرات أخرى لما حدث حول العالم؟

 

وائل شوقي: اعتماد هذا العنوان معاً يوضح أن التاريخ جزء لا يتجزأ من الأدب. فعندما أقول "وقصص أخرى" أتحدث أيضاً عن قصص محمد مستجاب في هذا المعرض والتي استندت إليها خلال تصوير سلسلة أفلام "العرابة المدفونة" (٢٠١٢–٢٠١٦). إذ اعتمدت على ثلاث من رواياته، من مجموعته القصصية "ديروط الشريف" (١٩٨٣) وربطت ذلك بروايات شخصية من زيارتي إلى صعيد مصر. فأنت تشاهد وترى تجربتي، لكنك تسمع كلمات محمد مستجاب وقصصه. إذن فمعرض "الحروب الصليبية وقصص أخرى" يربط الحروب الصليبية بهذا النوع من الأدب. تربط روايات محمد مستجاب الأسطورة بالواقع، لكنها تحكي في الوقت نفسه عن قضايا معاصرة عبر لغة عربية فصحى وجميلة. كما أنه نفس الربط الذي يمكنك إجراءه اليوم مع الحروب الصليبية حيث أن معظم الأحداث السياسية المعاصرة يرجع لما حدث قبل آلاف السنين.

 

عبد الله كروم: في سياق الإنتاج، هل يرتبط فيلم "العرّابة المدفونة" بدوره بمكان ونص تاريخي عن الأساطير التي تصل التاريخ القديم بالمجتمعات الحالية؟

 

وائل شوقي: نعم، القصة بأكملها من تصور محمد مستجاب وتأليفه، وتفترض أن وقائعها حدثت في صعيد مصر.

 

عبد الله كروم: حسناً، وبالنسبة للمكان الذي قمت بتصويره في صعيد مصر، هل كان تحديده عن اختيار؟

 

وائل شوقي: اخترت المكان بعد الجمع بين عدة نقاط. قمت بزيارة قرية تدعى العرابة المدفونة في صعيد مصر عام ٢٠٠٢ أو ٢٠٠٣، وتقع القرية في مكان تاريخي هام يوجد فيه مبنى الأوزيريون عند معبد سيتي الأول، أبيدوس، والذي كان يعتقد أنه معبد الإله أوزيريس. ولطالما حلمت القرية بالعثور على كنز تحت الأرض لسنوات طويلة، فكنت أقضي بعض الوقت هناك داخل غرف مغلقة مع أهالي القرية الذين حفروا الأنفاق تحت منازلهم أملاً في العثور على حجرة الملك يوماً ما. وكانت هذه العملية مثيرة للاهتمام بحكم النظام الميتافيزيقي، أو السحر والفن والإنجيل، الذي كانوا يستخدمونه للوصول إلى شيء مادي وملموس والذي هو في نهاية الأمر... الذهب. وكان الاتصال بين عالم ما وراء الطبيعة الغيبي والعالم المادي الواقعي مدعاة للدهشة. لذلك عندما قررت تصوير هذه التجربة في صعيد مصر، ارتأيت أن أقوم بذلك باستخدام عنصرين مختلفين: إذ ترى أن مشاهد فيلم "العرابة المدفونة" هي باللونين الأبيض والأسود وتحكي قصتي عندما زرت القرية، لكنك في الوقت نفسه تستمع إلى الأطفال وهم يروون قصة محمد مستجاب. وإذا نظرت إليهم تراهم أطفالاً لكن لهم أصوات بالغين. إنه مزيج من عالمين مختلفين، وتلك هي العرابة المدفونة.

 

عبد الله كروم: هل يستند فيلم "العرابة الدفونة" كلياً على نصوص الكاتب محمد مستجاب أم أنك قمت بكتابة نص الفيلم؟

 

وائل شوقي: لا، لم أقم بكتابة النص بل هي نفس النصوص التي كتبها محمد مستجاب. نص الفيلم الأول مأخوذ من قصة "الجبارنة" وهو اسم لقبيلة. حاولت عدم إجراء أي تغيير على القصة في الفيلم واعتمادها كما هي.

 

عبد الله كروم: يلعب الأطفال أدواراً تمثيلية في فيلم "العرابة المدفونة" كما يتميز العمل بأنه يأخذ الطابع المسرحي، في حين أن "كباريه الحروب الصليبية" أشبه بنص مقروء أنتجته بالاعتماد على دمى متحركة مصنوعة بدقة عالية. فالعرابة المدفونة أشبه بفيلم سينمائي بالنسبة لك.

 

وائل شوقي: أعتقد أن "كباريه الحروب الصليبية" أكثر تعقيداً من مجرد كونه نصاً مقروءا. إنه محاولة لمزج العديد من اللغات الفنية المختلفة، بما في ذلك المسرح، والتي لا وجود لها في فيلم "العرابة المدفونة".

 

عبد الله كروم: إذن فالعرابة المدفونة أقرب إلى السينما، وشخصياتها وهمية، لكنك جعلتها تصبح حقيقية، بينما في كباريه الحروب الصليبية يفترض أن تمثل الشخصيات أناساً من التاريخ، لكن الدمى مختلقة تماماً من جهة موادها وما تمثله، كما أن الأدوار مختلقة بدورها.

 

وائل شوقي: أعتقد أن هناك شيئاً من الترابط فيما بينهما. فرؤية الأطفال وسماعهم يتحدثون بأصوات البالغين يلغي حالة الدراما عند المشاهد، وهو ما يحدث أيضاً عند استخدام الدمى المتحركة بما أن الدمى تفتقر لمهارات التمثيل، فإن التعبير يعتمد على الموضوع وليس على مهارات الممثلين.

 

عبد الله كروم: لكن الُمشاهد يظل على مسافة مما يراه.

 

وائل شوقي: يمكن أن تكون متصلاً بالدمى بطريقة مختلفة تماما. ما يربط بين الفيلمين، العمل مع الأطفال والعمل مع الدمى، هو تلك المسافة وانتفاء الجانب الدرامي. عندها تصبح الأمور معطيات أولية، وتعتمد على قيمة الموضوع وليس على قيمة مهارات الممثلين.

 

عبد الله كروم: في فيلم "كباريه الحروب الصليبية: أسرار كربلاء"، نجد أن حجم دائرة البروج وحركتها تجعل العين لا تفارق المشهد. هي في مكان خشبة المسرح. وطوال الفيلم تظهر هذه الحركة الدائرية في كل المشاهد. تجعلك دائرة البروج تفكر في حركة الكون، لكنها ترتبط في الوقت نفسه بحركة آلة التصوير أو استوديو الفنان، أو ربما رؤيته، حين تدور الأشياء حول نفس الفكرة أو نفس المكان. أودّ معرفة المزيد عن سبب اعتماد عنصر دائرة البروج.

 

وائل شوقي: عندما بدأت إنتاج هذا الفيلم والبحث عن السينوغرافيا الملائمة، كان تفكيري منصباً على الصراعات الداخلية. معظم القصص المرتبطة بالفيلم الثالث انطلقت من حالة داخلية ومحلية تطورت فيما بعد إلى شيء أكبر فأكبر مع مرور الوقت. وهو أيضاً سبب تسميتي الفيلم بـ "كباريه الحروب الصليبية: أسرار كربلاء" لأن معركة كربلاء بدأت كصراع صغير جداً لكنه يقسم العالم الإسلامي اليوم. كان من المهم الإشارة إلى الصراع الكاثوليكي- الأرثوذكسي في الفيلم والعديد من الصراعات الداخلية الأخرى، حتى بين صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي، وبين صلاح الدين والملك الصالح (ابن نور الدين زنكي). أدت وفاة صلاح الدين إلى نشوب نزاع بين أبنائه وعمه، فتطورت معه المشاكل الداخلية الصغيرة إلى قضايا أكبر.

 ثم نظرت إلى التصورات حول وجوديتنا ككائنات بشرية في هذا الزمن، ووجدت أن البروج سيكون لها دلالة عظيمة في الفيلم، لأننا دوماً نعتقد أن الأرض هي مركز الكون. كل الأبراج السماوية تدعم فكرة أن الأرض هي مركز الكون وأننا مركز الكون، إلى غير ذلك من المعتقدات. وتعد القدس، في كثير من هذه البروج، مركزاً للكون، تماما كما هو الحال بالنسبة لكل مدينة كبيرة ترى نفسها في المركز.

 كانت الدمى العنصر المتحرك الوحيد في الفيلمين الأول والثاني، لكن السينوغرافيا اتخذت دوراً هاماً في الفيلم الثالث. أصبحت السينوغرافيا عنصراً جغرافياً في الفيلم ومن الرائع إحياء هذا العنصر وجعله مسيطراً بدلاً من أن يكون متلقياً دائماً للمشهد. وعندها تصبح الجغرافيا الشخصية الأكثر أهمية وليس مجرد خلفية. قررت جعل أرضية الفيلم تدور على سرعات واتجاهات مختلفة عبر نظام يتم التحكم به آليا، مما يتيح إظهار أنواع مختلفة من الأبراج السماوية، بحيث يكون لكل مدينة نوعاً معيناً من دوائر البروج التي تسير في مدارات محددة خلال أوقات معينة. عند وفاة الشخصية "شيريكو" تتوقف دائرة البروج عن الحركة، لتبدأ بالتحرك من جديد عندما يدخل صلاح الدين القاهرة للمرة الأولى. تكون الأرض ميتة لا حراك فيها، وبمجرد وصوله إلى المركز تبدأ الدائرة بالدوران من جديد.

 

عبد الله كروم: في أول فيلمين أظهرتَ لنا مشاهد بزوايا واسعة مع الكثير من التفاصيل بحيث الدمى المتحركة أمامنا مثل ما هي العادة في المسرح، فالمشاهد يتحرك مع الكاميرا. فما أهمية الإطار السينمائي بالنسبة لك؟ وما أهمية اللغة السينمائية والإطار وتكرارهما في الفيلم؟

 

وائل شوقي: لا أعرف السبب، إنما تميز الفيلم الثالث بلغة سينمائية أكثر من الأفلام السابقة. دائماً ما استخدم اللغة السينمائية كأداة فنية وجزء لا يتجزأ من لغة الفنون البصرية، لكن يصعب القول بأنه فيلم. لم أقم بتأليف القصة من بدايتها إلى النهاية، إنما هو مقطع مقتبس من تاريخ يبدأ عام ١١٤٦م وينتهي عام ١٢٠٤م.

 

عبد الله كروم: يمكن فهم النص كأجزاء، وإطارات، أو حتى فصول يمكن مشاهدتها منفصلة أو مجتمعة، كما يمكن تغيير ترتيبها أثناء التجول في المعرض.

 

وائل شوقي: أجل، يمكن تقسيم آخر فيلم من "كباريه الحروب الصليبية" إلى ما يقرب من خمسة فصول. هناك بالتأكيد تتابع وتطور في مشاهد الفيلم بأكمله، ولكن حتى لو بدأت مشاهدته من الدقيقة ١٢٠ فإنك ستشاهد جزءاً من التاريخ مترجماً إلى عمل بصري. بالنسبة لي، أرى أنه أمر قابل للتطبيق. وإذا ما أراد أحد أن يشاهد الفيلم من بدايته فذلك ممكن أيضا، لم أنتج الفيلم على أساس جدول معين، بل هو يعمل كحلقات متواصلة تسمح للمشاهدين بالدخول والخروج في أي وقت. أحب أن أترك هذا لحرية الجمهور.

 

عبد الله كروم: أعمالك تتحدث عن الماضي ولكنك في الوقت نفسه تتجاوب وتتواصل مع أبناء جيلك، من جميع أنحاء العالم وليس فقط في مصر أو قطر أو إيطاليا أو ألمانيا. أنت تبحث في تاريخ الحضارة البشرية وعلاقتها بالوقت الحاضر. كيف ترى مسؤولية الفنان في هذا المجال؟

 

وائل شوقي: التاريخ مهم للغاية في وقتنا الحاضر، ونيتي هي فهم الأمور بشكل أعمق من خلال هذا العمل. فمثلاً عندما بدأت بإنتاج هذه السلسلة، كان مشروع العمل عبارة عن فكرة تبادرت إلى ذهني عام ٢٠٠٩ ولم يعرف الفيلم الأول بداياته إلا عام ٢٠١٠. وكنت في ذلك الوقت أدرس هذا التاريخ وأقرأ الكثير عنه بحكم أنني لم أكن أعرف أي شيء عنه من قبل. مجرد قراءة النص لا يجعلني أفهم الوضع، غير أن تحويله إلى هذه التجربة يتيح لي أن أتعلم شيئاً مختلفاً للغاية. ليست هذه مقاربة فنية فحسب، إنما أعتقد أنها مرتبطة بتقديم تحليل لتاريخ البشرية، إذا أمكن القول.

 

عبد الله كروم: أو الذاكرة في هذه الحالة؟

 

وائل شوقي: نعم، دعني أعطي عدة أمثلة: عندما كنت أعيش في المملكة العربية السعودية كنت شديد الارتباط بالموسيقى العربية السعودية وإن كنت أجهل محتواها. كنت مجرد مستمع لها. إلا أنني قررت خلال تصوير الفيلم الثاني إيجاد وسيلة للوصول إلى جزء من هذه الثقافة مرة أخرى، فعملت مع موسيقى الفجيري من البحرين، وكان أمراً بالغ الأهمية لأنه لم يسبق استخدامها في شيء مرتبط بتاريخ هذه المنطقة. لا أتحدث هنا فقط عن المنطقة، ولكن أتحدث عن كيفية ربط أنواع من الموسيقى مع تجارب معينة داخل الأعمال الفنية، بل وحتى ربط شيء مثل تاريخ صناعة زجاج المورانو والفن المبهرج والرخيص، مع أمر تاريخي يتصل بطريقة تبلور التاريخ، وهو ما يجعلني أعرف المزيد عن أصلي.

 

عبد الله كروم: نعم هذا من جانب، على اعتبار أن عملك الفني هو بحث وتحقيق وقراءة ومحاولة منك لفهم سيرورة تطورنا داخل المجتمع. فهل يعالج العمل نفس القضايا من خلال الماضي ومن خلال القصص الأخرى، للحديث عن واقعنا الحالي؟

 

وائل شوقي: عندما بدأت بالعمل على السلسلة بأكملها لم يكن المقصود أن تكون انعكاساً لما يحدث اليوم في المنطقة. لقد بدأت السلسلة قبل اندلاع ثورات الربيع العربي. ولكن، بالطبع، نتيجة الثورة، بدأت الأمور تتتخذ دلالات أكثر.

 

عبد الله كروم: هذا الربط مثير للاهتمام، ولقد انعكس على عمل جيل كامل من الفنانين، "جيل ٠٠ "١. تمتلك تجربة في العمل الفني وتفكر في شيء يحدث في مكان آخر، غير أن الحدث يعيدك إلى ارتباطاتك التاريخية والواقع الاجتماعي.

 

وائل شوقي: لأكون صريحاً معك، لست متأكداً من كوني أستطيع أن أعتبر نفسي حقاً فناناً سياسيا.

 

عبد الله كروم: لكنك تنتج أعمالاً تتحدث عن السياسة وعن السياسة في التاريخ وعن القصص الخيالية.

 

وائل شوقي: نعم، أنا أتحدث عن السياسة ولكني لست متأكداً أني فنانٌ سياسيٌ بهذا المعنى. لا أريد أن أكون فناناً رجعياً يجيب فقط على بعض الأحداث السياسية الحالية.

 

عبد الله كروم: نعم، ولذلك قلت إن العمل هو بمثابة إسقاط. فلا شيء في السياسة الحقيقية يحدث من قبل، إنما يقع فيما بعد. فلو شاهد الناس في ألمانيا عملك لأدركوا الأحداث التي وقعت بشكل أفضل، غير أنه ليس مجرد توثيق للتاريخ.


وائل شوقي: كلا، العمل ليس توثيقاً أو رد فعل على ما يحدث، الفكرة تكمن في ألا تكون مع أي طرف على الإطلاق. وكما قلت، عملي بمثابة تحليل للطريقة التي ندوَّن بها التاريخ. نحن نكتب التاريخ ونسميه ابتكاراً إنسانياً، ولكن هذا لا يعني أنه مزيف. بالعكس، هناك معنى بين السطور. التوثيق حول مرحلة معينة وأناس محددين يعكس كيف آمن البشر بأنظمة معينة في لحظة من الزمن. وبالتالي حتى لو كان مزيفاً، فقد كان يعبر عن حاجة ما في ذلك الوقت. مثلاً، مع أن الوضع مع وسائل الإعلام يعتبر مهماً في الوقت الحاضر، لكنه يظل وسيلة من وسائل التحليل والإدراك. ولعلي استحضر مثالاً جيداً في هذا السياق وهو أحد أعمالي السابقة الذي حمل عنوان "تيليماتش السادات" (٢٠٠٧) لأنه أعاد تمثيل عملية اغتيال الرئيس السادات عام ١٩٨١ من قبل ممثلين أطفال، حيث تناولت اغتيال الرئيس السادات والموكب العسكري وعملية الاغتيال والجنازة وأعدت تمثيلها بواسطة أطفال بدو من مصر. كانت هناك ثلاث كاميرات تصوير فقط غطت الحدث السياسي والذي شهد اغتيال الرئيس السادات. فقمت باستخدام نفس زوايا التصوير ليس بقصد تمثيل ما حدث من هذه الزوايا ولكن لأن ذلك هو مصدرنا الوثائقي الوحيد لذلك الحدث. وبدلاً من استخدام عرض عسكري حقيقي، استعنت بالحمير والعربات، كما استعضت عن عناصر الجيش بأطفال من البدو. ليس لدى الأطفال ذاكرة مأساوية عن اغتيال السادات. فكنت أقول لهم ـ إقفزوا من هذه العربة هنا وأركضوا هنا، وأنتم أركضوا هنا ـ وكانوا يقومون بتنفيذ التعليمات، كما أنني استعنت بنفس الأطفال لتصوير مشهد جنازة السادات.

عندما ترى صورة على التلفزيون ـ مثلاً عدة مشاهد عن الثورة - تفقد الصورة معناها بعد فترة وتصبح شيئاً مختلفاً للغاية. لكن إجراء هذا التحويل، عبر إنتاج عمل بالاعتماد على الأطفال أو الدمى المتحركة، يحيي الذاكرة ويلغي الدراما، يأخذ العمل عندئذ طابعاً آخرا. يصبح الموضوع هو الأكثر أهمية. إذا استعنت بممثلين محترفين، يضيع المعنى، لأنني حينها أكون محكوماً بمهاراتهم في التمثيل. إنها وسيلة لفهم المزيد عن تاريخ البشرية وليست بالضرورة مرتبطة بالسياسة. نحن أمام التاريخ البشري وحاجات البشر، أمر تغير العالم بسببه.

 

عبد الله كروم: لنتحدث مرة أخرى عن هيكلية العرض. ما هو موقع قطعة من المعرض أو رسم؟ لديك الدمى المتحركة والتي تجسد الشخصيات إلى جانب الرسومات التي تمثل قطعاً أخرى من موقع تصوير الأفلام. وسيعرض المتحف رسومات من كلتا السلسلتين، فهل هي رسومات تحضيرية أم أنها تتبع إنتاج الأفلام؟

 

وائل شوقي: الرسومات التي سنعرضها مأخوذة معظمها من سلسلة "العرابة المدفونة"، بالإضافة إلى سبعة رسومات كبيرة من آخر فيلم من سلسلة "كباريه الحروب الصليبية". معظم الوقت أخط رسوماتي بشكل عفوي جداً وأحاول عدم التفكير أثناء رسمها لأن الموضوع موجود مسبقاً، وأنا أتعايش على إيقاعها حالياً لدرجة صار الرسم أشبه بالتحدث. ليس لدي أية فكرة عن الكيفية التي ستبدو عليها الرسومات، فهي دائماً اكتشاف جديد.

 

عبد الله كروم: أعتقد أنها من ذلك العالم، عالم الإبداع الفني.

 

وائل شوقي: أجل، من هنا تظهر. لا أعرف بالضبط ما سيحدث لكنني أعلم أنها ستكون نتاجاً لهذا العمل الفكري ولتصوّر هذه التواريخ.

 

عبد الله كروم: شكراً جزيلاً لك، وائل.

 

وائل شوقي: شكراً لك.​​​

​​1"جيل ​٠٠ " هو مجموعة من الفنانين كانوا يعملون خلال العقد الأول من ال ٢٠٠٠ ، في فترة "ما قبل الثورات"، التي تميّت بقيام بعض الفنانين والمثقفين بتقييم مجتمعاتهم والتفكير بصفتهم مبدعين ومواطنين من أجل استشراف فكرة التغيير​​​"​.​



نُشرت هذه المقابلة سابقاً في دليل معرض "وائل شوقي: الحروب الصليبية وقصص أخرى​". صدرت الطبعة الأولى سنة 2016 عن منشورات سكيرا - شركة مساهمة محدودة. جميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطر. ​