تسجيل الدخول
قائمة الفنانين
Encyclopedia of Modern Art and Arab World
موســــوعة الفـن الحديـــث والعالــم العربـــي
قائمة الفنانين

فنانون ضمن السياق

 

بقلم د. ندى الشبُّوط
ترجمة سلام شغري

يشتغل الفنانون بالحيز الذي يُوجَدون فيه، وبهموم مجتمعهم الذي يعيشون فيه، وهذا ما بينه الفنان العراقي جواد سليم في خطاب ألقاه عام ١٩٥٢، فقال: "يراقب الفنان محيطه بدقة، ويعبر عنه بصدق، وكل ما يحتاجه فعلاً هو إيجاد طريقة للتعبير"1.

يظهر العمل الفني إلى الوجود متأثراً بجملة من الدوافع، أو ما يطلق عليه اسم الإلهام، لذا يمكن القول بأن الأعمال الفنية ما هي إلا نتيجة تقاطع خبرات الفنان وثقافته ومجاهرته بها. لكن الأمر - حسب قناعتي - ليس مجرد إلهام، أو تأثير، بل هو إعادة صياغة نظرية واعية للنقاشات الجمالية والاجتماعية والتاريخية والثقافية. وفي فترة ما بعد الحداثة تعلمنا أنه يمكننا تفسير الصورة بعدد غير محدود من التفسيرات، ووفقاً لتعريف "بودريارد" للمحاكاة فإن الهم التاريخي الفني الأبدي للعلاقة بين بودريارد والصورة قد تحطَّمَ وزال.

"دائماً الآن: خمس قصص من المجموعة الدائمة" يقدم قراءة جديدة تستند إلى أعمال خمسة فنانين، ممن تتصدَّر أعمالهم مجموعة "متحف" الدائمة. وهذه القراءات تعتمد بشكل مباشرعلى السياق التاريخي الفني الواقعي الذي تطورت من خلاله أعمال هؤلاء الفنانين، ناهيك عن التفسيرات التجريبية، وخبرة المقتنِي الذي جمع هذه الأعمال.

"دائماً الآن" يقدم قصصاً سرديةً جديدةً، بفهم جديد لأعمال خمسة فنانين مختلفين، هم فخر النساء زيد، وجواد سليم، وصليبا الدويهي، وسالم الدبَّاغ، وأحمد الشرقاوي. ويدرس المعرض تفاعل هؤلاء الفنانين مع بيئتهم المباشرة وتاريخهم وثقافاتهم، وبحثهم عن مفردات جديدة، يعبرون من خلالها عن واقعهم المتغير، نتيجة موجات الاستمرارية والانقطاع. والنتيجة هي هذا الحوار الدقيق بين الخبرة والتاريخ، والحقيقة والتفسير، وهو ما يلقي ضوءًا جديداً على الأعمال المختارة، وعلى الفنانين المذكورين." دائماً الآن" جزء من رسالة "متحف"، ورسالة مُؤسِّسه الساعية إلى البحث عن قصص جديدة، وفهم تطور تاريخ الفن الحديث في العالم العربي.

أما برنامج المعرض فيتألف من جزأين:

الأول: إطلاق سلسلة من المعارض التحليلية المحددة الأهداف، لتستكشف الجوانب الخاصة لحياة عدد من الفنانين، الذين تتصدر أعمالهم مجموعة "متحف" الدائمة.

الثاني: دراسة فهم المقتنِي للأعمال الفنية عند وضعها ضمن سياق أوسع.

يركز"دائماً الآن" حصرياً على تطور الفنانين، وعلى مراحل عملهم، لا على الصدى الذي لقيته أعمالهم، أو المعاني التي اكتسبتها فيما بعد. لهذا تُدرس هذه الأعمال بتجرُّد عن السياسات التي رافقت عرضها. ومن الواضح أن هذه المراحل تلقي الضوء على عدد من القصص التي تتناول الاستعمار، وبناء الذات، وإعادة اختراع التراث.

ولا شك أن الأوضاع السياسية في المنطقة أدت دوراً مهما في تطوير الشكل، وتغيير علاقة الفنان بالتقنيات والمواد التي استخدمها. وقد شهد القرن العشرون تحولات أسلوبية عديدة، ورفضاً لعدد من المدارس السائدة، استناداً إلى المعتقدات والأيديولوجيات السياسية. ويبدو هذا واضحاً في أعمال الفنانين الخمسة، وإن كان بأشكال مختلفة. فتجارب هؤلاء الفنانين المتنوعة تكشف عن حاجتهم لإيجاد هوية بصرية فريدة، قومية بقدر ما هي محلية وشخصية، وذلك من خلال تحرياتهم النخبوية للإشارات والرموز التاريخية والمحلية.

وقد زاد الاستعمار من الهموم الإشكالية حول الهوية، وعزَّز الشوفينية الوطنية، وأبرزها عنصراً أساسياً في الدولة القومية. كما حرم فرض السياسات القومية في أواسط القرن العشرين الشكل البصري من حَيِّز الحرية اللازم للإبداع؛ لذا تُعد أعمال الفنانين الخمسة رموزاً لمقاومة الاستعمار، وتأكيداً للهوية ضد هيمنة الحداثة الأوروبية.

لقد أدرك هؤلاء الفنانون المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم في التعبير عن هموم بلدانهم. وساهموا جميعاً في حياكة ثقافات محلية فريدة، إلا أنها امتزجت على المستوى الإقليمي لتشكل ثقافة موحدة على مستوى المنطقة. ونلاحظ أيضاً أن أعمال الفنانين الخمسة تُبرِز مراحل مختلفة من التسويات الفكرية والبصرية لحاضرهم وماضيهم، وكذلك لأنفسهم وللآخر.

وفي الواقع فإن أعمال هؤلاء الفنانين تُركِّز على نفي الغَيْرية، بحيث حررت هذه الأعمال الشرق الأوسط من نظرة الاستشراق التقليدية التي كانت تضع المنطقة في خانة (الآخر) الأزلية والنمطية. وقد رفض الفنانون التنميط بشدة، وهو ما أدى إلى إزالة استشراقية المنتج البصري في العالم العربي. فترى كل واحد منهم قد غاص - على طريقته الخاصة - فيما كان يراه تراثاً إنسانياً، من دون تقيُّد بمجموعة معينة من الناس، بل توجهوا بأعمالهم للجميع. ولا يوجد هنا تخصيص، بل حوار نشط بين الذات والآخر، بكل ما يحمله هذا الحوار من تعقيدات وتناقضات تلغي الاثنين في النهاية، وذلك من خلال تألق العمل الفني.

الفنانون

ينتمي الفنانون الخمسة - المختارة أعمالهم ضمن هذا المعرض، إلى خلفيات وبلدان وأجيال مختلفة، فكل واحد منهم يمثل مسيرة فريدة من التطور والنقاش الفنيينِ، لكن جمعتهم الجغرافيا والتراث والطموحات والآمال، ناهيك عن مهاراتهم الفردية الفذَّة في استخدام المصادر والتقنيات الفنية المختلفة بكل راحة وثقة. وإلى جانب إنجازاتهم الفردية نجد أن كل واحد منهم قد ترك أثراً لا يُنسَى في تشكيل الحركة الفنية الحديثة في العالم العربي، أما أعمالهم فتقف شاهدَ عيان على زمانهم، كما تسلط الضوء على خطاب كل واحد منهم بمراحله وتطوراته.

فخر النساء زيد سيدة مميزة، تطرح أعماُلها حواراً أسلوبياً ثرياً، يتنقَّل ما بين المخطوطات العثمانية والمدرسة الفرنسية في القرن العشرين، وبين المشهد الفني العربي الذي كان يتبلور آنذاك على الساحة. وقد شهدت رؤيتها تضافر العناصر المتفاوتة التي مرَّت في حياتها، وإسهاماتها تذهب أبعد كثيراً من مجرد البعد الأسلوبي. وقد أدت زيد دوراً حيويا في تطوير الفن الحديث في الأردن، وفي رعاية جيل كامل من الفنانات والمثقفات اللواتي كُنَّ لبِنة الحياة الفنية في الأردن. ومقالة سلوى مقدادي ترسم خطوط حياة فخر النساء زيد، وتصورها فنانةً عالميةً، ما كانت لترضى برؤية قاصرة للحياة.

أما أعمال جواد سليم، فهي تعبر عن مقاربات فريدة ومعتقة في فهم تاريخ بلده العراق، بالإضافة إلى تعبيرها عن أنماط الحداثة في ثقافته المعاصرة. وتلفت أعماله المعروضة هنا أنظار المشاهدين إلى العيون في هذه الأعمال، فتصوره للعيون يعكس التنوع والتطور في أسلوبه، بدءًا من المذهب الطبيعي الأكاديمي، وصولاً إلى التجريد. ويظهر ذلك جليا في الفن السومري القديم، حيث تبان العيون في شكل مبالغ فيه. وهكذا يعرج جواد سليم على استعمال الشكل التجريدي للعيون، والحواجب الدراماتيكية، إلى تناغم مُزخرف يحمل في طياته دلائل ثقافية كبرى، كما تعكس أعماله في الوقت ذاته التحول المدني لبغداد. وتكمن أهمية أعمال سليم في كونها رسمت مساراً فنياً واضحاً للفن العراقي ولفناني العراق، مساراً استكشافياً قادراً على التغير والنمو.

أما صليبا الدويهي فتكرِّس لوحاته استغراق الفنان وعشقه لقريته. ومع أن أعماله تحمل كَماً كبيراً من الحنين، إلا أنها تظهر التحولات في أشكاله ورموزه. ويميز التمثيل المتصاعد لوادي قنوبين في لبنان النقلات الأسلوبية لرؤيته الفنية، وتحوله من المذهب الطبيعي إلى التجريد الخالص. هذا وقد أتاحت مساهمة بدر الحاج في المعرض والكتالوج فرصة نادرة، تمكننا من سماع صوت الفنان، من خلال المقابلات العديدة التي أجراها الحاج مع الدويهي، وسماع ذكرياته مع الفنان.

يعكس التقنين في أسلوب رسم الأشكال عند سالم الدباغ النقلة العامة في سردية الخطاب الوطني في العراق، حيث انقلب جيله على تسلط ما هو "مدني" في تاريخ بغداد على بقية تركيبة بغداد الاجتماعية في الأسطورة الوطنية العراقية. ويبدو هذا واضحاً بشكل خاص عند مقارنة تأملاته في الطبيعة، والأجواء الريفية المفتوحة، مع لوحات سليم المليئة بالرموز الحضرية والاجتماعية للمدينة. ويعكس هذا التحول في أسلوب سالم الدباغ أيضاً التحول من التفاعل مع الثقافات الغربية إلى التفاعل مع دول تحالف الشرق. كما أن تشكيلاته الزاهدة تثير الذكريات المنسية للصحراء العراقية.

أما نسيج بيت الشعر، الممتزج مع خط الأفق المتزمت، فيسلط الضوء على العنصر العربي في الهوية العراقية، الذي ربما طَغَت عليه بعض العناصر التاريخية الغنية الأخرى المستمدة من ماضي العراق التي ظهرت في فنون الأجيال السابقة. وتسمح لنا مقالة مي مظفر أن نلقي نظرة على عالم الدبَّاغ من خلال علاقتها العملية والشخصية به.

أما أحمد الشرقاوي فيعد واحداً من أهم الفنانين المغاربة، الذي لا يزال تراثه الفني باقياً إلى اليوم في المشهد الفني المعاصر للمغرب. وقد تناول في أعماله الرموز الأمازيغية، وأعاد صياغتها، مما أتاح تقديم خيط جديد للتطور البصري، كما تقدم موقعاً محدداً للمقاومة التي سمحت له باستكشاف تراثه الثقافي الغني، وكذلك التجريد بوصفه أسلوباً حديثاً. ومقالة إبراهيم العلوي تتتبع ملامح رحلة الشرقاوي الفنية، من خلال تطورها التشكيلي والأسلوبي.

إن مجموعة أعمال الفنانين الخمسة المختارة لمعرض "دائماً الآن" ما هي إلا نذر يسير مما تضمه مجموعة أعمالهم. وقد اختِيرت قطع هذا المعرض للتركيز على موضوعات مركزية محددة في رحلتهم الفنية. والأهم من هذا هو أننا عندما نضع أعمالهم الفنية ضمن سياق تاريخي أوسع فنحن نعطي لأنفسنا المجال كي نتقدم خطوة إلى الأمام، باتجاه استيعاب نطاق نفوذهم، وتقدير التعقيدات والثراء الذي تمتعت به رُؤاهم. ولا تسهم المقالات التي بين أيديكم في تقديم إضافات نقدية أدبية حول أعمال الفنانين الخمسة فحسب، وإنما تغني الأدبيات المتعلقة بطرائق تشكُّل الفنان العربي.

  1. شاكر حسن آل سعيد، جواد سليم، الفنان والآخرون، ص 121.


 

نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "دائماً الآنخمس قصص من المجموعة الدائمة"صدرت الطبعة الأولى سنة ٢٠١٢ عن دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر، الدوحة، قطرجميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف ​​العربيللفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطرتحرير دندى الشبُّوط.