تسجيل الدخول
قائمة الفنانين
Encyclopedia of Modern Art and Arab World
موســــوعة الفـن الحديـــث والعالــم العربـــي
قائمة الفنانين

منى حاطوم: اضطراب

 

​​بقلم سام بردويل وتيل فلراث
ترجمة ففيان حمزة وسناء اليونسي

"الفلسفة هي النقيض التام للراحة والطمأنينة، إنها اضطراب، الاضطراب الذي يدور في دوّامته الانسان، بحيث تكون تلك الطريقة الوحيدة لفهم الوجود البشري بدون أوهام." 1

هذا ما قاله هايدغر في توضيح الغرض الأساسي الذي تؤديه الفلسفة في النشاط البشري: تساؤل عميق حول كل ما قد يفترض أنه نهائي وثابت.

وهذا ما يحققه فن منى حاطوم. بدءًا من الأدوات الصغيرة الجاهزة انتهاءً بأعمال التركيب الهائلة والغامرة، من أعمال الأداء الملتزمة سياسياً إلى القطع النحتية التي تنزع نحو الأشكال الرسمية، ترفض مجموعة أعمالها الغزيرة والغنية أن تركن إلى الراحة والطمأنينة اللتين عادة ما تمنحهما الرتابة. فهي تصر، من ناحية، على قلب روايات وتصنيفات تاريخ الفن التي تلمح إليها رأساً على عقب، وتبطل، من ناحية أخرى، القدرة على التذكر والادراك التي يتشبث بها المشاهد في محاولته لتحديد، أو حتى للسيطرة على، ذلك الالتباس الفكري والحسي الذي أُغمس فيه.

من خلال ذلك، يضع عمل حاطوم الافتراض، ليس بصفته المرادف الفلسفي ليقين قد يعدّ مطلقا فحسب، بل أنه يوفر، على الأكثر، حقلاً من الاختبارات يصبح فيها انعدام اليقين مدخلاً نحو فهم جديد للوجود الانساني. "أريد أن أخلق حالة يكون فيها الواقع في حد ذاته نقطة تساؤل، حيث يتوجب على المشاهدين أن يعيدوا النظر في افتراضاتهم وبعلاقتهم بما يحيط بهم." 2 قالت حاطوم ذات مرة في وصفها الدافع المفاهيمي الذي يشكل جزءًا أساسياً من عملها. "أفضل الفنون هو الذي يعقّد الأشياء أمامك بعرضه تناقضات مستحيلة تجعلك تسائل افتراضاتك حول العالم بحيث تغادر حاملاً أسئلة أكثر من الأجوبة." 3

من هذا المنظار، أختير عنوان "اضطراب" ليكون مدخلاً إلى فهم متجدد لعمل حاطوم؛ كناية رمزية لهذه الحالة من التراوح بين اليقين وعدمه، كما يشرحه ادوارد سعيد، "الإلفة والغرابة حبيستان معاً بأغرب الطرق، متجاورتان ولكن، في الوقت ذاته، لا يمكن التوفيق بينهما."4 لذا فالهدف من "اضطراب" هو أن يكون عنواناً لقصة رمزية. قصة لحالة لا هوادة فيها، تعيش شخصياتها، المشاهدون، نوعاً من التأرجح المتواصل بين الوضوح الذي يوفره المألوف والابهام الناتج من الغرابة.

أن تكون بعض الاهتمامات الشكلية والرموز المفاهيمية قد تخللت أعمال حاطوم لحوالي ثلاثين سنة ونيف هو أمر واضح، لقد تم بحث هذا الموضوع وتشريحه بشكل مفصل من قبل العديد من النقاد والقيمين ومؤرخي الفن على حد سواء. وضعت اجتراراتهم عملها داخل تشكيلة من مختلف السياقات التفسيرية المتنوعة. أسهب بعضهم حول الجانب السياسي الصريح، على غرار سلوى مقدادي وتشديدها على "نكبة" 1948 الفلسطينية وآثارها كنقطة أساسية للولوج إلى العديد من أعمال حاطوم.5 ركز بعضهم الآخر في المقام الأول على الجوانب الشكلية الصرفة في أعمالها، لكن بدون اهمال الجانب السياسي، مثل إشارة باتريسيا فالغيير على سبيل المثال، إلى الحداثة، وبالأخص إلى اختزالية سول لويت ودونالد جاد، في مناقشتها ل "استخدام حاطوم التكتيكي لمعايير تاريخ الفن"6، رغم أن فن التاريخ هذا يظل، وفقاً لمراجع فالغيير، غربياً بشكل حصري لا ريب فيه.

نظراً لتعقيدها الهائل، وجدت هناك، بلا شك، بعض الاستقراءات غير المدروسة أو غير الموثّقة التي فرضت على أعمال حاطوم، على غرار التشبيه المستنبط للتعريشات في عمل تيار خفي (أحمر) (٢٠٠٨)، أو حتى الأخرق بشكل واضح، مثل الالتفافات العضوية لشعيرات الدم في عمل بيض غنم (خصية غنم) (١٩٩٦)، ودوامات الشعر المرغي على ظهر رجل في عمل ظهر فان خوخ (١٩٩٥)، إلى زخرفات عربية عضوية "تدمج مصطلحاتها الشكلية نظم الرموز العربية والأوروبية داخل وحدة جمالية."7

تطلبت كثافة أعمال حاطوم كذلك مناهج تفسير شملت حقولاً معرفية متعددة واستعارت من اختصاصات قريبة أخرى بما يتعدى نطاق النقد الفني والبحث التاريخي. لنأخذ على سبيل المثال تحليل كيارا برتولا المقارن التي، في محاولتها لتفسير أشكال حاطوم الهجينة، ربطت "التحويلية الكامنة في أعمالها، بمفهوم المسخ لدى ديدرو الذي لا تتسم فكرة الشكل فيه بأي معطى ثابت."8 في مقالة أخرى بعنوان في البيت وبعيداً عنه: سريالية منى حاطوم الغريبة، إنتقت أليكس أوهلين ترابطات معيّنة بين عملي الفنانة جسم غريب (١٩٩٤) والمفرمة الكبيرة (مولي  جوليان ×٢١) (٢٠٠٠) وبين روايتي فرانز كافكا المسخ ومستعمرة العقوبات على التوالي، من أجل إلقاء مزيد من الضوء على كيف أن أعمال حاطوم، على غرار كافكا، "تسكن واقعاً بديلاً تتخذ فيه الحياة العادية أشكالاً تشابه الحلم"9 نظراً لتجربتها في التفكك.

رداً على مثل هذا الغنى من المواد، كان اختيار "اضطراب" كعنوان لهذا المعرض، إضافة إلى كونه مستعاراً من أحد أعمال حاطوم التركيبية، بمثابة انعكاس في المقام الأول لرغبة القيمين في توفير قراءة مميّزة لأعمالها، تستند إلى الحقل النقدي الذي سلطت عليه الأضواء في بعض المراجع السابقة وتعمل على توسيعه. يقترح مفهوم الاضطراب، كإطار مصطلحي لهذا المعرض، الخروج بعيداً عن خيوط التفسير التي استخدمت بصورة متكررة بهدف حصر أعمال حاطوم ضمن مجموعة من الميادين واضحة المعالم. "رغم أن منى حاطوم قد استخدمت تنوعاً هائلاً في المواد، فقد حافظت بصورة خلاقة على الاستمرارية في المواضيع المعالجة، ومن ضمنها: تحديد معالم الواقع على هامش الرؤية، خلق إشكاليات في فهمنا للغيرية والمكان والزمان، تحريف الخصائص الشكلية في الأعمال الفنية، وهو نهج يعتمد على اقتصاد الخسارة؛ وتجديد معالم الصورة الأنثوية."10

تلك هي واحدة من العديد من التأكيدات المماثلة التي طالت عمل حاطوم وتستمر في عرضه ضمن أطر محدودة من الأقطاب الثنائية الراسخة ظاهريا، بين الوطن والمنفى، الحراك والجمود، الشكلية الصرفة والخطاب السياسي، الرضوخ البيتي والتحرر النسوي.

لذا، بدلاً من المكوث ضمن الصيغ القائمة، ومع أخذ المحاور الشكلية والدلالية والسيرة الذاتية، التي غالباً ما تتداخل وتتقاطع في أعمالها، بعين الاعتبار، يتبنى هذا المعرض مفهوم  وطبيعة  الاضطراب كمنظار بديل يتيح إعادة هيكلة فهمنا؛ فهم مستنبط من النهج الذي طبع أعمال، وإلى حد ما، حياة الفنانة. وبالتالي، يؤدي الاضطراب عمل القالب الجدلي المدبّر، ليكون وسيلة لتحدي أنظار المشاهد وإعادة توجيهها. فقد تم وضع التصّور، من وجهة نظر القيمين، لإصطلاح مجازي يبرز ثلاثة فروع هامة تدعو بدورها، تبعاً لمكان وزمن المعرض، إلى إجراء الاستقصاء الملائم.

الاضطراب كتعقيد لتاريخ الفن

الدلالة الأولى لمعنى الاضطراب على النحو المنشود في هذا المعرض هي تلك الحالة التي تتصف بها مراحل انقطاع التواصل في التصنيفات المتبعة في تاريخ الفن. أدت الطريقة التي تستوعب فيها أعمال حاطوم الأساليب المحددة في تاريخ الفن، وتتبناها وتعيد ابتكارها، إلى التمازج بين ما هو شكلي صرف وما هو سياسي بطبيعته. فقد كفّت، على سبيل المثال، بعض الأعمال التي تبدو اختزالية أن تكون ذاتية بشكل حصري وجعلها وعي بعض القضايا الاجتماعية السياسية أكثر حيوية. يشكل المكعب في عمل منيع (٢٠٠٩) والشبك في حكم مخفف  (١٩٩٢) والخصائص المشابهة لنمط باوهاوس في سلسلتي ملجأ (٢٠١١) وبرج (٢٠١٠ -  ٢٠١١)، انعكاساً لكيفية اشتقاق الجوهر الجمالي في العديد من أعمال حاطوم من مشابك الحداثة تلك. بل، على عكس كيفية استعمال هذه الأشكال وغيرها فيما مضى، ترفض حاطوم أن تقبل بدفع الحداثة نحو الموضوعية ودعمها بلا هوادة للشكل كوسيط ورسالة على حد سواء. بدلاً من ذلك، تعمل على ابتكار "لغة خاصة بها وحدها. إنها لغة مرنة، من النوع الذي يسمح لمستويات مختلفة أن تتفاعل مع نفسها، لغة تدور بين صرامة الشكل والدقة المفاهيمية والوعي السياسي."11

على مستوى آخر، غالباً، ما ربط فن حاطوم بالسريالية على سبيل المثال، وذلك عائد جزئياً لطريقة اعتمادها على تحريف المقاييس وادماج مواد غير تقليدية، في القطع الجاهزة والمنحوتات، تداعب الخطر المحدق وتشوه المثير وتحث على غير المألوف أو الصارخ. 12 ولكن، عند الإشارة إلى علاقة السريالية بصناعة الصورة في أن "الصورة لا يمكن أن تلد من مقارنة بين واقعين متباعدين أو أكثر بل من جعلهما متجاورين" 13، يلاحظ أن هدف حاطوم، على عكس السريالية، لا يتقيّد في تحرير وظائف العقل الباطني مطلقة العنان، ولا هو مغروس أصلاً في مبادئ علم النفس الفرويدي. على نحو مغاير، تقلب حاطوم ببراعة حيل التناقض السريالية لخلق بيئات يقينية، وكذلك لاعبة أحيانا، تهدف إلى تعميق تساؤلاتنا حول "الوجود البشري بدون أوهام"، على حد تعبير هايدغر مرة أخرى. تشكل أعمال مثل كراسي سبرايغ (انتهاء العمل) (٢٠٠١) وبدون عنوان (كرسي متحرك ٢) (١٩٩٩) وطبيعة جامدة (خزانة طبية) (٢٠١٢) عروضاً جيدة لهذا البعد في فن حاطوم.

أبعد من إعطائنا وصفاً لكيفية نجاح حاطوم في زعزعة تصنيفات تاريخ الفن الجامدة، يهدف "اضطراب"، من وجهة نظر القيمين، لأن يشاهد كمناورة تشكيكية تجابه المعايير التي شيّدت على أساسها تواريخ الفن الحديث والمعاصرالمهيمنة. إذا كان الهدف في متحف هو تقديم منظور عربي في الفن الحديث، فمن الضروري أن تتجاوز مفاهيمنا حول الحداثة، وبالتالي فهمنا للمعاصَرة، السرد الغربي الحصري الذي زوّدنا على الأغلب بمعايير القوانين السائدة. على هذا الأساس، وعند مناقشة تعامل حاطوم مثلاً مع مجاورة الأضداد في النزعة السريالية في صناعتها لفن معني بشؤون الواقع، يمكن للمرء أن يدخل ضمن هذا الجدال نشاطات جماعة "الفن والحرية" القاهرية (ت. ١٩٣٩) التي يغلب عليها الطابع السريالي. "عند إجراء تفحص دقيق، يتبين بوضوح أنهم في تعاملهم مع المناهج غير التقليدية وتكييفهم لها في تصميم المعرض والعرض، تلك التي كان نظراؤهم السرياليون يستخدمونها، خاصة في باريس ولندن الثلاثينات، كانوا أكثر نجاحاً في خلق قطيعة داخل البنى الثقافية والسياسية التي كانوا يسعون لإصلاحها." 14

لنذكر كذلك، على سبيل المثال، ظاهرة شكلية أخرى في أعمالها غالباً ما أشير إليها عندما "لوثت" حاطوم الاختزالية بهموم حول الهوية مستنبطة من خصوصية خلفيتها، ألا يمكن للمرء أن يتذكر هنا أيضاً الاختزالية الهندسية في عمل رسام مثل صليبا الدويهي الذي تصر لوحاته التجريدية ظاهرياً على أن تكون تجسيداً، وإن كان مقنّعاً بشدة، لموقع معيّن في موطنه الأصل لبنان؟ تلك هي أمثلة هامة لأفعال سابقة من التعامل الواعي تم اختزالها بصورة اصطلاحية إلى أفعال "استعارة". اعترافاً بابداعاتهم، وعلى الأكثر في إطار نقاش في تاريخ الفن يتمحور حول فنانة مثل حاطوم، لا بد من المبادرة إلى إجراء عملية عكسية، ستكون بلا شك مضطربة، تسمح بلا- مركزة أماكن انتاج الفن تاريخياً ومعها الخطاب السائد الذي يحيط بالحداثة والذي يعتبرها اختراعاً غربياً في الأصل جرى استيراده، مع وقع أدنى، من قبل أجزاء أخرى من العالم.

إن إعادة بناء الماضي النقدية هذه، رغم أنها ثقلية، هي مهمة اجبارية لا بد منها لإعادة بناء السياق الحاضر. من الممكن الاحتجاج على هذا التعهد، حيث قد يطرح السؤال حول: ما هي القواسم المشتركة بين فنانة مثل حاطوم، على سبيل المثال، وأعضاء جماعة "الفن والحرية" أو صليبا الدويهي. لا شيء وكل شيء! لا شيء، إذا كان المراد هو مواصلة بناء تاريخ خطي مبسط للتصنيفات والمراحل والأساليب الفنية. وكل شيء، إذا أمكن النجاح في استخراج أوجه التشابه الغريبة في النزعات بين فناني الماضي وفناني الحاضر؛ إذا كان بالإمكان بلورة تقديرهم للتشابه الكامن، ليس في الفن بحد ذاته، بل في الموقف الذي أنمته كلتا المجموعتين من الفنانين حول كيفية صناعة الفن، وما هي مصادرالاستلهام الشرعية وكيف يمكن إعادة اختراع هذه الأخيرة لتتلاءم بدورها مع السياقات الاجتماعية والسياسية الخاصة.15

اضطراب: الخلط بين الشخصي والجماعي

تشابك تاريخ منى حاطوم الشخصي مراراً مع الغرض الدلالي وراء عملها. في أغلب الأحيان، وحتى في أعمالها الأقل انطباعاً بالدلالات السياسية، تموضعت التفسيرات ضمن مفاهيم المنفى والهوية السياسية والحنين للوطن. "أعمالها هي إظهار للهوية بوصفها غير قادرة على التماثل مع ذاتها،" كما شرح إدوارد سعيد، مضيفاً: "يعبّر فنها عن تفكك جوهري للغاية كما لو أنه يهاجم، ليس فقط الذاكرة لما كان يوماً، بل إلى أي مدى كان هذا التكوين لمحيط مألوف وأشياء مألوفة منطقياً وممكناً، وإلى أي مدى كان بالفعل قريباً، ومع ذلك بعيداً، عن موطنه الأصل." 16

مع أن حاطوم لم تنف يوماً الترابط المعقد بين خلفية الفرد وانتاجه الفني، فهي عبّرت في أحيان كثيرة، ومنذ بدايات مسيرتها، عن اعتراضها على التأطير الثقافي الذي يختزل أعمال الفنان إلى مظهر مبسط وحرفي من مظاهر سيرته الشخصية. "في العروض الأدائية الأولى، كنت أرى نفسي شخصاً هامشياً يجري مداخلاته ضمن هوامش عالم الفن، وكان يبدو منطقياً أن أستخدم الأداء كوسيلة نقد للمؤسسة. وبعد مدة لم أعد راضية عن التوجه الخطابي الواضح، ولم أعد بعد ذلك متأكدة ما إذا كانت الأعمال التي أنجزها هي فعلاً ما أردت عمله، أم إنها نتيجة تبن لما يتوقعه الآخرون وقولبتي في صيغة فنان مسيّس. إنه خط رفيع جداً. أردت أن أقدم أعمالاً تعطي الأولوية للجوانب المادية والشكلية والبصرية في صناعة الفن، وأحاول أن أعبر عن السياسي من خلال جماليات العمل." 17

رغم قلة التعبير عن جوانب السيرة الذاتية في أعمال حاطوم المعنية في المقام الأول بالبعد الجمالي، لا تزال هناك قراءات لفنها محددة مسبقاً وتزاول الدوران حول مواضيع سياسية بشكل صريح مثل المنفى والهجرة. رداً على ذلك، يودّ هذا المعرض أن يطعن بالتأطير الذي يحصر المنفى بكونه مأزق يرتبط بشدة بتاريخ حاطوم الشخصي، وأن يدعو المشاهد إلى إعادة النظر فيه بوصفه تاريخ من الانسلاخ يتشابك بعمق مع تجربة الحداثة. نتج عن تركيز العصر الحديث على سهولة الحركة تحوّل كبير في تجربة الفرد مع مفهوم الموطن. في عالم تسوده العولمة، حيث أصبحت الرحلات ممكنة، ليس عبر الحدود الجغرافية فحسب، بل كذلك من خلال الانتشار الغزير لتكنولوجية الاتصالات العالمية، فإن الافتراض المسبق بأن أية ثقافة هي من صنع حفنة مغلقة من التقاليد والممارسات، التي تقتصر على مكان مع بشكل واضح، لم يعد صالحاً. وبالتالي، "في العصر الحديث، تحوّل معنى الوطن من كونه المأوى الذي يوحّد ازدواجية الوعي في الذاكرة والمصير من خلال التراث، إلى وعاء يضمّ ما لا يحصى من الممارسات والارتجالات." 18 في المقابل، لم يعد من الممكن اعتبار الهجرة والمنفى من المخاطر المتضمنة في مآسي الرحيل وأحلام العودة الناتجة عن النفي السياسي، لأنهما أصبحا، بدلاً من ذلك، من رموز الانسلاخات السائدة في الزمن الحديث. وبالتالي، لم يعد المهاجر هو وحده من يتعرض إلى النزوح الجغرافي نتيجة المعاناة السياسية والاقتصادية، بل أي فرد عاش نوعاً من القطيعة بسبب "حالة القلق الحديثة حول مفهوم الأصالة والصراع من أجل المعنى في الحداثة." 19 وقد وصف جون بيرغر ذلك بأفضل صورة عندما كتب: "فعل الهجرة هو دائماً فعل تفكيك لمركز العالم وذلك من أجل الانتقال إلى إحدى شظاياه الضائعة والمفقودة." 20

هكذا، يكون النظر إلى تاريخ الحداثة كمثيل مطابق لتاريخ المنافي، بمثابة هدم للحدود التي تفصل السير الشخصية عن الجماعية. يمكن لمعرض اضطراب أن يشكل الدالة على هذا الهدم وذلك الالتباس الذي ينشأ من الخلط بين الشخصي والعام. سوف يحرر ذلك أعمال حاطوم على الأرجح من عبء حمل مواصفات الضحية في المنفى، ويسمح للمشاهد بأن يراه كاستعارة رمزية لمختلف نطاقات النزوح في الحداثة. وهنا، يصبح عمل مثل شبكات مواصلات (٢٠٠٣) رسماً لخطوط ما هو زائل، كظاهرة حديثة، بدل أن يكون خرائط رحلات الفنانة. ويكف عمل بيت (١٩٩٩) عن تلقي تفسيرات بدائية تقتصر على خسائر حاطوم الشخصية وتوقها إلى البيت، بل كتجسيد للحوار الكوني حول ماهية البيت، ليس للمقارنة بموقع جغرافي محدد، بل، ووفقاً لعبارات ميرسيا الياد "موقع للمصالحة الوجودية بين الزمان والمكان." 21 وعلى هذا النحو، يمكن لأعمال يغلب عليها الطابع الشخصي مثل مقاييس البعد (١٩٨٨) ومشهد داخلي (٢٠٠٨) أن تكتسب معان أشمل وتتحول إلى سفن تجسد الشعور بالغربة والاغتراب الذي يعاني منه كل واحد منا عندما يواجه حالة من الضياع والانفصال.

اضطراب: توجه تنظيمي يشدد على موضوع المعرض

عنوان "اضطراب" هو أيضاً دالة على منهج التنظيم الذي يعطي الاعتبار إلى كيفية توزيع الأعمال في فضاء المعرض بشكل يعكس الطبيعة التجريبية في أعمال الفنانة. صمم المعرض ليشكل بمجمله عملاً تركيبياً واحداً من أجزاء مختلفة، تجمتع فيه الأعمال المختلفة المعروضة لتعكس معنى شمولياً للاضطراب المستمد من التناقضات الشكلية الخاصة بكل عمل وكذلك التوتر الإجمالي الذي تضاعفه طريقة العرض المدروسة بعناية. استنبطت فرضية المعرض وعنوانه من أحد أعمال حاطوم؛ اضطراب (٢٠١٢) هو عمل تركيبي على شكل مربع بحجم ٤×٤ أمتار يتألف من آلاف من الكرات الزجاجية المطروحة مباشرة على الأرض. وضع هذا العمل التركيبي في وسط المعرض تحديداً ويقع في قلب مسار خطي، إنما غير زمني، تردد عبره التجاورات العديدة غيرالمتوقعة صدى التعقيد الذي تمكنت الفنانة من خلاله أن تتحدى وتزعج أحياناً تجربتنا لما هو عادي. فقد وضع عمل مثل طبيعة جامدة (خزانة طبية) (٢٠١٢)، على سبيل المثال، في مكان شديد القرب من عمل آخر مصنوع كذلك من الزجاج، هو صمت (١٩٩٤). إلى جانب العدد الكبير من الخصائص الشكلية الواضحة في طرق معاملة واستخدام الزجاج الشديدة الاختلاف في كل من العملين، فإن وضعهما الواحد في مواجهة الآخر يضاعف العطوبة التي توحي بها تركيبة كل منهما، مما يضاعف بدوره الشعور بالخطر في مجمل المكان. لنأخذ مثالاً آخر، أعمال طرق (١٩٨٥) هو توثيق بالفيديو لأداء أجرته حاطوم في بدايات مسيرتها، تظهر فيه وهي تسير حافية القدمين في شوارع بريكستون بينما تجر خلفها حذاء ضخماً من طراز د. مارتنز، مربوطاً بكاحليها. تقرر عرض الفيديو على شاشة موضوعة على الأرض قرب أحد الجدران الجانبية لصالة العرض الرئيسية داخل المعرض. عند دخوله تلك الصالة، يواجه الزائر بما يبدو وكأنه مدينة تتألف من عدد من القطع الضخمة من سلسلتي برج (٢٠١٠ - ٢٠١٢) وملجأ (٢٠١١) موضوعة في مركزها. يبرز التناقض الهائل بين ضخامة وموضع المنحوتات الكبيرة والشاشة القزمة، بصورة أكثر مبالغة، نسبية حجم كل من العملين. علاوة على ذلك، يمكن للزائر أن يقرأ في هذا التجاور محاولة إعادة تشكيل، حيث يردد فعل السير اليوم أداء الفنانة عام ١٩٨٥.

لنعطي مثالاً آخر، معلق (٢٠١١) هو عمل تركيبي يتكون من ٣٥ أرجوحة معلقة الواحدة قرب الأخرى ومثبتة في السقف وهو أحد عملين فقط مركبين في صالة طويلة وضيقة. العمل الآخر هو اضطراب (٢٠١٢). إلى جانب الشعور بالتوتر الذي تولده التناقضات البصرية الصارخة بين العملين، فأحدهما معلق في السقف عمودياً بينما ينبسط الآخر أفقياً على الأرض؛ أحدهما متحرك والآخر جامد، يتضاعف القلق لدى الزائر عندما يسير داخل مساحة عرض الأراجيح المعلقة لأنها تبدأ بالتأرجح بصورة حتمية. تزيد حركة الأراجيح، التي كانت قبل دقيقة فقط جامدة مثل الكرات المنبسطة على الأرض، إدراك الزائر لمدى عطوبة العناصر المحيطة به وكيف أن وجوده في الصالة يمكن أن يؤدي إلى تفكيك الكرات الزجاجية التي تبدو ثابتة والمنبسطة أرضاً على بعد بضع خطوات. تسمح تجاورات من هذا النوع بعيش تجربة جمالية مكثفة، مغرية وصعبة الولوج في آن معاً، أو، بعبارة أخرى، مضطربة.

الاضطراب كواقع

شهدت السنوات الثلاث الأخيرة أو نحوها، انبعاثاً جديداً لنقاش يثير الكثير من الجدالات حول الفن والالتزام السياسي. مع أن الاستعارات الاجتماعية والسياسية ارتبطت مراراً بالإنتاج الفني في العالم العربي، لا شك أن عودتها الكثيفة الآن قد أثارتها الصراعات الحالية التي أطلق عليها اسم الربيع العربي. تبعاً لذلك، استسلم العديد من الفنانين لاغراء صناعة فن مسيس بشكل صريح وإن لم يكن بالغ النضج من ناحية الشكل. ليست هذه المناسبة الأولى التي يتقاطع فيها محوراً صناعة الفن والنضال السياسي، ومن المرجح كثيراً أن لا تكون الأخيرة. مع ذلك، هناك، على تلك العتبة، يقف عدد ضئيل من الفنانين ممن نجحوا برسم خط فاصل بين الاتجاه السياسي والنزاهة الفنية؛ حاطوم هي واحدة منهم. بينما تتصارع أعمالها مع قضايا النزوح، فهي لا تغض الطرف أبداً عن طبيعة تلك الأعمال المادية. وعندما تواصل عكس مواضيع سياسية للغاية ترتبط بالظروف الإنسانية بشكل عام، لا تكف بتاتاً عن تطوير جودة تعبيرها الفني من الناحيتين المادية والشكلية. لذا، فإن "حصر أعمال حاطوم ضمن بناء جغرافي سياسي معين هو تقليل مؤسف للتأثير المادي لما يحدث عندما يصبح الشكل بحد ذاته تعبيراً، بالمعنيين المادي والمفاهيمي على حد سواء." 22 أو، فلنقل وفقاً لعباراتها: "عندما انتقل فني من التوجه السياسي الخطابي الصريح إلى فن يجعل الأفكار السياسية تولد من الشكل والجماليات، أصبح العمل أقرب إلى منظومة مفتوحة." 23 مرّت سنتان منذ أن باشرنا هذا التعاون مع منى عن قرب. كنا في افتتاح أحد معارضها عندما ولدت فكرة العمل سويا، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة جادة من التطوير والتبادل. ولا شك أن نظرتنا إلى أعمالها قد نتجت عن توجيهها المثابر؛ فالاصغاء إلى منى ومشاهدتها وهي تتكلم عن فنها هو تعدادي وفاتن في آن واحد. وكما في أعمالها، ينبع ذلك دائماً من أحد عوالم الخيال، حيث تدفعها عدم رغبتها في أن تركن إلى المألوف، نحو مواقع جديدة.

"لا تبدأ من الأشياء القديمة المقبولة، بل من تلك الجديدة غير المستحبة" 24​ ، كما قال بريخت يوما، وذلك هو الحافز الاستقصائي القابع في صلب أعمال حاطوم، وهو، بكلمة واحدة، اضطراب.

سام بردويل وتيل فلراث

القيّمان على المعرض

 

  1. مارتن هايدغر، The Fundamental Concepts of Metaphysics: World, Finitude, Solitude (مفاهيم الميتافيزقيا الأساسية: العالم، الزوال، العزلة. إنديانا: منشورات جامعة إنديانا، ١٩٩٥. ص. ١٩.
  2. منى حاطوم، مقابلة أجرتها جانين أنتوني، منى حاطوم. (عمان: مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون، تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٨. ص. ٢٢. نشرت المقابلة أولاً في مجلة بومب، نيويورك، العدد ٦٣، ربيع ١٩٩٨، ص. ٥٤-٦١.
  3. منى حاطوم، مقابلة أجرتها فرشته دفتري، Here is Elsewhere  (هنا هو مكان آخر). نيويورك: متحف الفن الحديث، ٧ تشرين الثاني/ نوفمبر، ٢٠٠٣- ٤ شباط/ فبراير، ٢٠٠٤.
  4. إدوارد سعيد، Mona Hatoum: The Entire World as a Foreign Land (منى حاطوم: العالم بأجمله كأرض غريبة). لندن: غاليري تيت، ٢٠٠٠.
  5. سلوى مقدادي، حالات الكينونة في أعمال منى حاطوم؛ منى حاطوم. عمان: مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون، تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٨، ص. ٥٩- ٧٣.
  6. باتريسيا فالغيير،Disbelonging; Mona Hatoum: Shift (فقدان الانتماء؛ منى حاطوم: التحوّل). برلين: غاليري ماكس هتزلر ومنشورات هولتزفارت، ٢٠١٢ ، ص. ٦٨.
  7. راينالد شوماخر، Arabesques and Narrative Grids Mona Hatoum: Double Sound – Organic (منى حاطوم: صوت مزدوج- زخرفات عربية عضوية وشبكات سردية)؛ منى حاطوم. ميونخ: منشورات ساملونغ غوتز وهاتيي كانتز، ٢٠١٢، ص. ٤٥-٤٩.
  8. كيارا برتولا، Mona Hatoum. Unstable, Living, Organic and Moving Form (منى حاطوم: أشكال مزعزعة وحيّة وعضوية ومتحركة) ؛ منى حاطوم: مشهد داخلي. ميلانو: شارتا، ٢٠٠٩، ص. ٢١.
  9. أليكس أوهلين Home and Away: The Strange Surrealism of Mona Hatoum (في البيت وبعيداً عنه: سريالية منى حاطوم الغريبة)؛ منى حاطوم. عمان: مؤسسة خالد شومان، دارة الفنون، تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٠٨، ص.٤٥. نشرت أولاً في Mona Hatoum: Undercurrents  (منى حاطوم: تيارات خفية)، كتاب بينالي دونا فيرارا الثامن، ٢٠٠٨.
  10. كاترين دي زيغر، Mona Hatoum: Beyond the Violence Vortex into the Beauty Vortex (منى حاطوم: في تجاوز دوامة العنف إلى دوامة الجمال) ؛ Mona Hatoum: Projecció (منى حاطوم: استقراء). برشلونة: مؤسسة خوان ميرو، ٢٠١١ ، ص. ١٢٠.
  11. برتولا، ٢١.
  12. كيرستي بيل، Mona Hatoum: Unhomely (منى حاطوم: الغير مألوف). برلين: منشورات غاليري ماكس هتزلر وهولزفارت، ٢٠٠٩.
  13. أندريه بروتون، Manifestoes of Surrealism (بيانات السريالية)، ترجمة ريتشارد سيفر وهيلين ر. لين. آن أربور، ١٩٧١ ، ص. ٣٧.
  14. سام بردويل،
    "Dirty Dark Loud and Hysteric: The London and Paris Surrealist Exhibitions of the 1930s and the Exhbition Practices of the Art and Liberty Group in Cairo" ("أسود متوسخ، صارخ وهستيري: معارض السرياليين في لندن وباريس خلال الثلاثينات وطرق العرض لدى جماعة الفن والحرية في القاهرة"
  15. سام بردويل،
    The Transmodern Artist; Sam Bardaouil and Till Fellrath, Told, Untold, Retold: 23 Stories of Journeys through Time and Space (الفنان عابر الحداثة، في: محكي، مخفي، معاد: 23 رواية لرحلات عبر الزمان والمكان). ميلانو: سكيرا، 2010، ص. 7. 
  16. إدوار سعيد، منى حاطوم: العالم بأجمعه كأرض غريبة.
  17. حاطوم، مقابلة أجرتها جانين أنتوني، منى حاطوم، ص. ٢٢.
  18. نيكوس باباسترجيادس، Modernity as Exile: The Stranger in John Berger's Writing (الحداثة كمنفى: الغريب في كتابات جون بيرغر). مانشستر: منشورات جامعة مانشستر، ١٩٩٣، ص. ١١.
  19. المصدر نفسه، ص. ١١.
  20. جون بيرغر، And Our Faces, My Heart, Brief as Photos  (ووجوهنا، قلبي، مختصرات كما الصور). نيويورك: بلومسبري، ٢٠٠٥، ص. ٥٧.
  21. ميرسيا الياد، Myths, Dreams and Mysteries (أساطير وأحلام وأسرار) ترجمة فيليب ميري. نيويورك: هاربر ورو، ١٩٦٧، ص. ١١٥.
  22. أندرو رنتون، منى حاطوم. لندن: غاليري وايت كيوب، ٢٠٠٦، ص. ٢٩- ٣٣.
  23. حاطوم، مقابلة أجرتها جانين أنتوني، منى حاطوم، ص. ٢٣.
  24. وولتر بنجامين، Understanding Brecht (فهم بريخت)، ترجمة آنا بوستوك. لندن: فرسو بوكس، ١٩٧٧، ص. ١٢١.

 

نُشر هذا المقال سابقاً في دليل معرض "منى حاطوم: اضطراب". صدرت الطبعة الأولى سنة 2014 عن منشورات سِلفانا، شركة مساهمة محدودة. جميع الحقوق محفوظة © متحف: المتحف العربي للفن الحديث ومتاحف قطر، الدوحة، قطر. القيّمان على المعرض: ​سام بردويل وتيل فلراث.